سلسلة شرح (المنظومة البيقونية) في مصطلح الحديث ( الدرس الخامس عشر)
صفحة 1 من اصل 1
سلسلة شرح (المنظومة البيقونية) في مصطلح الحديث ( الدرس الخامس عشر)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، أفضل الأنبياء والمرسلين، وعلى ءاله وصحبه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا إنك أنت العليم الخبير.أما بعد:
في الدرس الماضي شرحنا بمعونة الله الحديث المُعلّ، والحديث المضطرب، وفي هذا الدرس قد قمنا بفضل الله وتوفيقه بشرح الحديث المدرج، قال الناظم (رحمه الله):
وَالْمُدْرَجَاتُ في الْحَدِيْثِ مَا أَتَتْ ... مِنْ بَعْضِ أَلْفَاظِ الرُّواةِ اتَّصَلَتْ
ثم قال: (والمدرجات) جمع مدرجة، والإدراج لغة: الإدخال، يقال: أدرجت الشيء في الشيء، إذا أدخلته فيه وضمنته إياه.
واصطلاحاً: ما غير سياق إسناده،أو أدخل في متنه ما ليس منه بلا فصل. وهو قسمان، مُدْرَج الإسناد، ومٌدْرَج المتن.
القسم الأول - مدرج الإسناد: وهو ما غير سياق إسناده، وأنواعه أربعة:
النوع الأول- أن يروي جماعة الحديث بأسانيد مختلفة، فيرويه عنهم راو، فيجمع الكل على إسناد واحد من تلك الأسانيد ولا يبين الإختلاف.
مثاله: حديث رواه الترمذي: عن بندار ، عن ابن مهدي ، عن سفيان الثوري ، عن واصل ، ومنصور ، والأعمش ، عن أبي وائل ، عن عمرو بن شرحبيل ، عن عبد الله ، قال : قلت : " يا رسول الله ، أي الذنب أعظم ؟ " الحديث .
فرواية واصل هذه مدرجة على رواية منصور والأعمش ; لأن واصلا لا يذكر فيه عمرا ، بل يجعله ، عن أبي وائل ، عن عبد الله ، هكذا رواه شعبة ، ومهدي بن ميمون ، ومالك بن مغول ، وسعيد بن مسروق ، عن واصل كما ذكره الخطيب، وقد بين الإسنادين معا يحيى بن سعيد القطان في روايته ، عن سفيان ، وفصل أحدهما عن الآخر ، وروايته أخرجها البخاري .اهـ
النوع الثاني- أن يكون متن الحديث عندَ رَاوٍ بسند إلا طرفاً منه، فإنه عنده بسند آخر، فيرويه راوٍ عنه تاماً بالإسناد الأول.
مثاله: ما رواه أبو داود من رواية زائدة وشريك، ورواه النسائي من رواية
سفيان بن عيينة، كلهم عن عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حجر في
صفة صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال فيه: "ثم جئتهم بعد ذلك في زمان فيه برد شديد فرأيت النَّاس عليهم جُلُّ الِثّيَابِ تحرك أيديهم تحت الثياب ".
فقوله : ثم جئتهم إلى آخره ، ليس هو بهذا الإسناد ، وإنما أدرج عليه ، وهو من رواية عاصم ، عن عبد الجبار بن وائل ، عن بعض أهله ، عن وائل، وهكذا رواه مبينا زهير بن معاوية ، وأبو بدر شجاع بن الوليد ; فميزا قصة تحريك الأيدي ، وفصلاها من الحديث ، وذكرا إسنادهما، قال موسى بن هارون الحمال: وهما أثبت ممن يروي رفع الأيدي تحت الثياب ، عن عاصم ، عن أبيه ، عن وائل .
ومن هذا النوع: أن يكون المتن عند راويه عن شيخ له إلا بعضه، فإنما هو عنده بواسطة بينه وبين ذاك الشيخ، فيدرجه بعض الرواة عنه بلا تفصيل، وهو مما يشترك فيه الإدراج والتدليس.
مثاله: حديث إسماعيل بن جعفر ، عن حميد ، عن أنس في قصة العُرَنِيِّينَ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لهم : "لو خرجتم إلى إبلنا فشربتم من ألبانها وأبوالها".
فإن لفظة وأبوالها، إنما سمعها حميد عن قتادة عن أنس كما بينه محمد بن أبي عدي ومروان بن معاوية ويزيد بن هارون ، وآخرون اهـ.
النوع الثالث- أن يكون عند الراوي متنان مختلفان بإسنادين مختلفين، فيرويهما راو عنه مقتصرا على أحد الإسنادين.
مثاله: حديث "إنما الأعمال بالنيات " وحديث "بني الإسلام على خمس " كل منهما بإسناد خاص به فرواه بإسناد أحدهما.
ومن هذا النوع: أن يروي أحد الحديثين بإسناده الخاص به ، لكن يزيد فيه
من المتن الآخر ما ليس في الأول.
مثاله: حديث رواه سعيد بن أبي مريم ، عن مالك ، عن الزهري ، عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا تباغضوا ، ولا تحاسدوا ، ولا تدابروا ، ولا تنافسوا ، الحديث .
فقوله : " ولا تنافسوا " مدرج ، أدرجه ابن أبي مريم من حديث آخر لمالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ، ولا تجسسوا ، ولا تنافسوا ، ولا تحاسدوا "، وكلا الحديثين متفق عليه من طريق مالك ، وليس في الأول ، ولا " تنافسوا " ، وهي في الثاني ، وهكذا الحديثان عند رواة الموطأ .
تنبيه: هذا المثال والذي قبله، منهم من فصلهما وجعلهما نوعين، والصواب أنهما نوع واحد كما في النخبة وغيرها.
النوع الرابع- أن يسوق الراوي الإسناد، فيعرض له عارض عن ذكر متنه، فيقول كلاما أجنبيا عن المتن، فيظن بعض من سمعه أن ذلك الكلام من ذلك السند، فيرويه عنه كذلك.
مثاله: حديث شريك قال: حدثنا الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: « مَنْ كَثُرَتْ صَلاَتُهُ بِاللَّيْلِ حَسُنَ وَجْهُهُ بِالنَّهَارِ ».
فأصل هذا الحديث: أن شريكا بعد أن ساق الإسناد سكت ليكتب المستملي، فدخل عليه ثابت بن موسى الزاهد، فقال شريك: من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار، يريد بذلك ثابتا، فظن ثابت أنه من متن ذلك السند، فكان يحدث به.اهـ
القسم الثاني- مدرج المتن: وهو ما أدخل في متنه ما ليس منه بلا فصل، وأنواعه ثلاثة:
النوع الأول- أن يكون الإدراج في أول المتن وهو نادر جداً .
مثاله: ما رواه الخطيب من طريق أبي قَطَن وشبابة، في روايتهما عن شعبة ، عن محمد بن زياد ، عن أبي هريرة، قال : قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - : "أسبغوا الوضوء ، ويل للأعقاب من النَّارِ".
فقوله أسبغو الوضوء مدرج من قول أبي هريرة ، كما بين من رواية البخاري في صحيحه عن آدم ، عن شعبة ، عن محمد بن زياد ، عن أبي هريرة رضي الله
عنه قال : "أسبغوا الوضوء" فإن أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - قال : "ويل للأعقاب من النار" وقد رواه كرواية آدم جم غفير.اهـ
النوع الثاني- أن يكون الإدراج في وسط المتن.
مثاله: حديث عائشة – رضي الله عنها- في بدء الوحي، ففيه: " وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالى ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله " فقوله : " وهو التعبد " مدرج من كلام الزهري، يفسر التحنث.اهـ
النوع الثالث- أن يكون الإدراج في آخر الحديث وهو الأكثر.
مثاله: حديث أبي هريرة - رضى الله عنه – مرفوعا: « للعبد المملوك الصالح أجران، والذى نفسى بيده لولا الجهاد فى سبيل الله والحج وبر أمي، لأحببت أن أموت وأنا مملوك » .
فقوله: " والذي نفسي بيده .... إلخ " من كلام أبي هريرة، لأنه يستحيل أن يصدر ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يمكن أن يتمنى الرق وهو أفضل الخلق، ولأن أمه لم تكن موجودة حتى يبرها.اهـ
اعلم أن الناظم لم يذكر القسم الأول، وهو مدرج الإسناد، وإنما اقتصر على ذكر مدرج المتن فقط فقال معرفا له: (والمدرجات في الحديث) أي في متن الحديث (ما) موصولة (أتت من) من هنا بيانية (بعض ألفاظ) من إضافة الصفة للموصوف، أي من ألفاظ بعض (الرواة) صحابيا كان أو من دونه من غير فصل بين الحديث وبين ذلك الكلام بما يدل على مغايرتهما، بحيث يلتبس على من لم يعرف حقيقة الحال، فيتوهم أن الجميع من الحديث، وقد سبق تفصيل أنواعه، وقوله: (اتصلت) جملة حالية من فاعل أتت، أي المدرجات هي التي أتت متصلة بالحديث بدون بيان، من ألفاظ بعض الرواة، إما في أوله أو وسطه أو آخره كما تقدم.
وأما أسباب الإدراج فمنها: أن يكون لبيان حكم شرعي، أواستنباط حكم شرعي من الحديث قبل أن يتم الحديث، أوشرح لفظ غريب في الحديث وغير ذلك.
ويدرك الإدراج: إما بورود رواية مفصلة من طريق آخرى، أوتصريح الراوي بأنه لم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك المدرج، أونص إمام من أئمة الحديث على ذلك، أواستحالة كون النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك.
وأما حكم الإدراج: فإنه حرام بإجماع العلماء من المحدثين وغيرهم، ويستثنى من ذلك الخطأ والنسيان، إلا أن يكثر خطأه ونسيانه فإنه جرح في ضبطه وإتقانه، ويستثنى كذلك ما كان لتفسير غريب، فإنه غير ممنوع، ولذلك فعله الزهري وغيره من الأئمة، والله أعلم .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه الأمجاد، والحمد لله الذي هدى من شاء من عباده إلى سلوك صراطه المستقيم، واتباع شرعه القويم، والبعد عن أسباب سخطه العظيم.
مواضيع مماثلة
» سلسلة شرح المنظومة البيقونية في مصطلح الحديث ( الدرس الخامس )
» سلسلة شرح المنظومة البيقونية في مصطلح الحديث ( الدرس السادس )
» سلسلة شرح (المنظومة البيقونية) في مصطلح الحديث ( الدرس العاشر )
» سلسلة شرح (المنظومة البيقونية) في مصطلح الحديث ( الدرس الحادي عشر)
» سلسلة شرح (المنظومة البيقونية) في مصطلح الحديث ( الدرس الثاني عشر)
» سلسلة شرح المنظومة البيقونية في مصطلح الحديث ( الدرس السادس )
» سلسلة شرح (المنظومة البيقونية) في مصطلح الحديث ( الدرس العاشر )
» سلسلة شرح (المنظومة البيقونية) في مصطلح الحديث ( الدرس الحادي عشر)
» سلسلة شرح (المنظومة البيقونية) في مصطلح الحديث ( الدرس الثاني عشر)
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى