سلسلة شرح (المنظومة البيقونية) في مصطلح الحديث ( الدرس الرابع عشر)
صفحة 1 من اصل 1
سلسلة شرح (المنظومة البيقونية) في مصطلح الحديث ( الدرس الرابع عشر)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، أفضل الأنبياء والمرسلين، وعلى ءاله وصحبه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا إنك أنت العليم الخبير.أما بعد:
في الدرس الماضي شرحنا بمعونة الله الحديث الشاذ، والحديث المحفوظ، والحديث المقلوب، والحديث الفرد، وفي هذا الدرس قد قمنا بفضل الله وتوفيقه بشرح الحديث المُعلّ، والحديث المضطرب، قال الناظم (رحمه الله):
وَمَا بِعِلَّةٍ غُمُوْضٍ أَوْ خـــَفَا ... مُعَلَّلٌ عِنْدَهُمُ قَدْ عُرِفـــــَا
وَذُو اخْتِلافِ سَنـَدٍ أَوْ مَتــْنِ ... مُضْطَرِبٌ عِنْدَ أُهَيْلِ الْفَـــنِّ
وَذُو اخْتِلافِ سَنـَدٍ أَوْ مَتــْنِ ... مُضْطَرِبٌ عِنْدَ أُهَيْلِ الْفَـــنِّ
(وما) أي والحديث الذي اشتمل (بـ) أي على (علة) قادحة اُطُّلِعَ [ بالبناء للمفعول] عليها مع أن ظاهره السلامة منها، ثم بين أن هذه العلة هي عبارة عن (غموض) وهو خلاف الوضوح (أو) بمعنى الواو (خفا) بحذف الهمزة للضرورة، من خفي الأمر يخفى أي استتر وتوارى خلاف الظاهر، ويقال: خفا يخفو بمعنى ظهر، وفي التفريق بين خفا وخفي يقول الناظم:
وقل خفا يخفو بمعنى ظهر ... وخَفِيَ يخفى بمعنى استتر
قوله: (معلل) خبر ما، وهو لغة : اسم مفعول من " أَعَلَّهُ " بكذا فهو " مُعَلٌّ " وهو القياس الصرفي المشهور، وهو اللغة الفصيحة، لكن التعبير بـ " المعلل " من أهل الحديث جاء على غير المشهور في اللغة، لأنه اسم مفعول من علّلَه بمعنى ألهاه، ومنه تعليل الأم ولدها، ومن المحدثين من عبر عنه بـ " المعلول " وهو ضعيف مرذول عند أهل العربية واللغة، وقال النووي: إنه لحن، والخلاصة: أن المتقدمين كانوا يعبرون عن المعل بالمعلل والمعلول، ولا مشاحة في الإصطلاح، والمتأخرون إنما عابوا على المتقدمين لمخالفتهم القياس اللغوي.
قوله: (عندهم) أي المحدثين (قدعرفا) بألف الإطلاق، قيل هذا حشو، أو أنه قد اشتهر عندهم المعلل بالذي فيه علة غامضة خفية.
وتدرك العلة بأمور منها: تفرُّد الراوي، ومخالفة غيره له، وقرائن أخرى تنضم إلى ذلك يهتدي إليها الجهابذة النقاد، وذلك كإرسال في الموصول، أو وقف في المرفوع، أو دخول حديث في حديث، أوغيرها، ويكفي المحدث العارف بالخفيات والدقائق غلبة ظنه بوجود هذه الأسباب القادحة في صحة الحديث، أو التردد في وجود هذه الأسباب، فيتوقف إن تردد، وفي غلبة الظن يحكم بما غلب على ظنه.
وتقع العلة في الإسناد وفي المتن وتقع فيهما معا.
مثال ذلك في الإسناد: حديث كفارة المجلس، قال فيه البخاري: لا نذكر لموسى بن عقبة سماعا من سهيل.
مثاله في المتن: ما يمثلون به من حديث البسملة، وهو مما تفرد به مسلم في صحيحه .
مثاله فيهما معا: كالإنقطاع الخفي في السند مع الإدراج الغامض في المتن.
وهذا النَّوع – أي المعل- من أجَلِّ أنواع عُلوم الحديث وأشْرَفها وأدقها, وإنَّما يتمكَّن منهُ أهل الحفظ والخِبْرة والفهم الثَّاقب، ولهذا لم يتكلَّم فيه إلاَّ القليل, كابن المَدِيني, وأحمد, والبُخَاري, ويعقُوب بن شَيْبة, وأبي حاتم, وأبي زُرْعة, والدَّارقُطْني.
والطريق إلى معرفة العلل: هو جمع طرق الحديث، والنظر في اختلاف رواته، والموازنة بين ضبطهم وإتقانهم، فيقع في نفس العارف بهذا الشأن أن الحديث مُعل، ويغلب على ظنه فيحكم بعدم صحة الحديث، أو يتردد فيتوقف فيه، وربما تقصر عبارته عن إقامة الحجة على دعواه، كالصيرفي في الدينار والدرهم،
قال ابن مهدي : معرفة علل الحديث إلهام، لو قلت للعالم بعلل الحديث من أين قلت هذا ؟ لم يكن له حجة وكم من شخص لا يهتدي لذلك، وقيل له أيضاً: إنك تقول للشىء هذا صحيح ، وهذا لم يثبت، فعمن تقول ذلك ؟ فقال : أرأيت لو أتيت الناقد فأريته دراهمك فقال: هذا جيد، وهذا بهرج، أكنت تسأل عن ذلك أو تسلم له الأمر ؟ قال: بل أسلم، قال : فهذا كذلك بطول المجالسة والمناظرة والخبرة.
وسئل أبو زرعة ما الحجة في تعليلكم الحديث ؟ فقال : الحجة أن تسألني عن حديث له علة فأذكر علته، ثم تقصد ابن وَارَةَ فتسأله عنه فيذكر علته، ثم تقصد أبا حاتم فيعلله، ثم تميز كلامنا على ذلك الحديث، فإن وجدت بيننا خلافاً، فاعلم أن كلًّا منا تكلم على مراده، وإن وجدت الكلمة متفقة، فاعلم حقيقة هذا العلم، ففعل الرجل ذلك فاتفقت كلمتهم، فقال: أشهد أنَّ هذا العلم إلهام. وأما أنواع العلل: فكثيرة، وقد قسمها الحاكم إلى عشرة أجناس، ولخصها السيوطي في التدريب بأمثلتها، فلينظرها من أرادها هناك.
وأما حكمه: فقد تقدم أن من شروط الحديث الصحيح عدم العلة القادحة، وسبق أنها تدخل الإسناد والمتن أو هما معا، فإن كانت في الإسناد فقد تقدح في المتن أيضا فيضعف الحديث، أو أنها لا تقدح في المتن، بل الإسناد فقط وهذا لا يضر، وأما إن كانت في المتن فقط فهي قادحة في الحديث، وكذلك إن كانت في المتن والإسناد معا، والله أعلم.
قوله: (وذو) أي وحديث صاحب (اختلاف سند) كتعارض الإتصال والإنقطاع، أو الوصل والإرسال، أو إثبات راو أو حذفه، أوغير ذلك إن لم يترجح أحدهما على الآخر، ولم يمكن الجمع، وذلك بأن يتساويا في القوة (أو) اختلاف (متن) كأن يُروى في أحد الروايتين مرفوعا وفي الأخرى موقوفا أو مقطوعا، أو يُروى في أحد الروايتين أو أكثر بلفظ يخالف الآخر، أو معنا يخالف الآخر وغير ذلك من الأمثلة، وقد بسطها الصنعاني في التوضيح، فلينظره من أراد التوسع في هذا.
وهذا كله إذا تعذر الترجيح أو الجمع، فأما إذا ترجح أحدهما على الآخر فلا يسمى حينئذ مضطربا، بل هو من باب المحفوظ والشاذ إن كان الثقة خالف من هو أرجح منه، أو هو من باب المعروف والمنكر إن كان الضعيف خالف به الثقة،
قوله: (مضطرب) وهو لغة: اسم فاعل من " الاضطراب " وهو اختلال الأمر وفساد نظامه، وأصله من اضطراب الموج ، إذا كثرت حركته وضرب بعضه بعضاً، قال بعضهم: لو كان المضطرب بفتح الراء لكان اسم مكان الإضطراب، ولكان ذلك أظهر لتحقيق المعنى الإصطلاحي.
واصطلاحا: ما رُوِيَ على أَوْجهٍ مختلفة متساوية في القوة، بحيث لا يمكن الجمع بينها، أوترجيح أحدها على غيرها بوجه من وجوه الترجيح.
وكما يدخل الإضطراب في الإسناد فقط أو المتن فقط، فكذلك يدخلهما معا، وهذا لم يذكره المؤلف.
مثال الإضطراب في الإسناد: عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَن عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ : قَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَا رَسُولَ اللهِ , مَا شَيَّبَكَ ؟ قَالَ : شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَالْوَاقِعَةُ وَالْمُرْسَلاَتُ وَ عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ وَ إذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ."
قال الدارقطني : " هذا مضطرب ، فانه لم يُرْوَ إلا من طريق أبي اسحق، وقد أُخْتُلِِفَ عليه فيه على نحو عشرة أوجه، فمنهم من رواه مرسَلا، ومنهم من رواه موصولاً، ومنهم من جعله من مسند أبي بكر، ومنهم من جعله من مسند سعد، ومنهم من جعله من مسند عائشة، وغير ذلك، ورواته ثقات لا يمكن ترجيح بعضهم على بعض والجمع متعذر .
مثال الإضطراب في المتن: ما مثلوا له في المعل، من حديث نفى قراءة البسملة في الصلاة، الذي انفرد به مسلم في صحيحه من رواية الوليد بن مسلم قال : حدثنا الأوزاعي عن قتادة أنه كتب إليه يخبره عن أنس بن مالك أنه حدثه قال : "صليت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين، لا يذكرون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في أول قراءة ولا في آخرها" اهـ .
فقد أعله ابن عبد البر بالإضطراب كما حكاه السيوطي عنه.
مثال الإضطراب في الإسناد والمتن معا: حديث القلتين، وفي كل من هذين المثالين الأخيرين مقال. اهـ
وأما حكمه: فهو في الغالب يوجب ضعف الحديث، لإشعاره بعدم ضبط راويه أو رواته، وإنما قلنا في الغالب لأنه قد يكون صحيحا مضطربا، وذلك كأن يقع الإختلاف في اسم رجل واحد وأبيه ونسبته ونحو ذلك ويكون ثقة، فلا يضر ذلك الإختلاف مع تسميته مضطربا، والله أعلم.
قوله: (عند) أي لدى (أهيل) بالتصغير لضرورة النظم (الفن) أي أهل الحديث.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه الأمجاد، والحمد لله الذي هدى من شاء من عباده إلى سلوك صراطه المستقيم، واتباع شرعه القويم، والبعد عن أسباب سخطه العظيم.
مواضيع مماثلة
» سلسلة شرح المنظومة البيقونية في مصطلح الحديث ( الدرس الرابع )
» سلسلة شرح (المنظومة البيقونية) في مصطلح الحديث ( الدرس التاسع )
» سلسلة شرح المنظومة البيقونية في مصطلح الحديث ( الدرس السادس )
» سلسلة شرح (المنظومة البيقونية) في مصطلح الحديث ( الدرس العاشر )
» سلسلة شرح (المنظومة البيقونية) في مصطلح الحديث ( الدرس الحادي عشر)
» سلسلة شرح (المنظومة البيقونية) في مصطلح الحديث ( الدرس التاسع )
» سلسلة شرح المنظومة البيقونية في مصطلح الحديث ( الدرس السادس )
» سلسلة شرح (المنظومة البيقونية) في مصطلح الحديث ( الدرس العاشر )
» سلسلة شرح (المنظومة البيقونية) في مصطلح الحديث ( الدرس الحادي عشر)
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى