شرح حديث (كل بدعة ضلالة)
صفحة 1 من اصل 1
شرح حديث (كل بدعة ضلالة)
بسم الله الرحمن الرحيم،
الحمد لله بديع السموات والأرض، ذي الجلال والإكرام والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي جاء بالسنة والفرض، وبين الحلال والحرام. ورضي الله عن ءاله الكرام، وصحابته الأعلام.أما بعد:
فهذا بحث بسيط ذكرت فيه معنى البدعة، وبينت حسنها [وسيئها] وحسبما اقتضته الأدلة، في إطار القواعد الأصولية، طارحا للتساهل المرذول.وبالله أستعين فهو الموفق المعين.
أولا - تعريف لبدعة لغة واصطلاحا:
البدعة في أصل اللغة بمعنى الاختراع على غير مثال سابق، ومنه قوله تعالى:{بديع السموات والأرض }[البقرة: 116]، أي مخترعهما على غير مثال سابق، وقوله تعالى:{ قل ما كنت بدعا من الرسل}[ الأحقاف:9]، أي ما كنت أول من جاء بالرسالة من الله إلى العباد، بل تقدمني كثير من الرسل.
وأما في اصطلاح الشرع، فقد عرفها العلماء بتعاريف متعددة خلاصتها:
أن المراد بالبدعة شرعا : " المحدث الذي لم تكن صورته على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولم يكن له أصل جملي متقرر في الشرع، أو كان فيه مخالفة للسنة ".
وعليه ، فإن مفهوم البدعة لا يتحدد في عدم وجود صورته على عهد النبوة فقط، بل لابد أن ينضم إلى ذلك أمران أساسيان :
الأمر الأول: أن يصاحبها ما فيه مخالفة للسنة :
ولهذا قال ابن عبد البر رحمه الله : "البدعة الممنوعة هي التي تخالف السنة .
شرح الموطأ للزرقاني (1/340).
وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى : " المحدثات من الأمور ضربان:
أحدهما: ما يخالف كتابا أو سنة أو آثارا أو إجماعا ، فهذه بدعة ضلالة .
والثاني: ما أحدث من الخير بلا خلاف فيه ، فهذه محدثة غير مذمومة" .
- سير أعلام النبلاء للذهبي (10/70).
-وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله : " ومراد الشافعي أن أصل البدعة المذمومة ما ليس لها أصل في الشريعة ترجع إليه، وهي البدعة في إطلاق الشرع ، وأما البدعة المحمودة فما وافق السنة، يعني ما كان لها أصل من السنة ترجع إليه، وإنما هي بدعة لغة لا شرعا لموافقتها السنة " .
- جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي (ص:267).
-وقال حجة الإسلام الإمام الغزالي رحمه الله تعالى :" ولا يمنع من ذلك كونه محدثا، فكم من محدث حسن ..، إنما البدعة المذمومة ما يصادم السنة القديمة، أو يكاد يفضي إلى تغييرها" .
- إحياء علوم الدين للغزالي (1/176).
-ويقول رحمه الله تعالى أيضا : " وما يقال إنه أبدع بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام، فليس كل ما أبدع منهيا، بل المنهي بدعة تضاد سنة ثابتة، وترفع أمرا من الشرع مع بقاء علته، بل الابتداع قد يجب في بعض الأحوال إذا تغيرت الأسباب" .
- المصدر السابق.
-وقال الشيخ التهانوي رحمه الله :" البدعة هي ما أحدث على خلاف أمر الشارع ودليله الخاص أو العام " .
- كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي (1/179).
الأمر الثاني: أن لا تندرج تحت أصل جملي متقرر في الشريعة :
فإن اندرجت تحت أصل عام ولم يلزم منها مخالفة للشارع فلا تعد بدعة .
-قال الحافظ المنذري رحمه الله تعالى : " والمحدث على قسمين :
محدث ليس له أصل إلا الشهوة والعمل بالإرادة، فهذا باطل.
وما كان على قواعد الأصول أو مردود إليها فليس ببدعة ولا ضلالة " .
- انظر: تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، لمحمد المباركفوري (7/442).
-وقال ابن رجب الحنبلي رحمه الله :" المراد بالبدعة ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه، أما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه فليس ببدعة شرعا، وإن كان بدعة لغة..وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية " .
جامع العلوم والحكم (ص:266).
-وقال ابن حزم رحمه الله تعالى :" البدعة في الدين كل ما لم يأت في القرآن ولا عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، إلا أن منها ما يؤجر عليه صاحبه ويعذر مما قصد إليه من الخير، ومنها ما يؤجر عليه ويكون حسنا، وهو ما كان أصله الإباحة، كما روي عن عمر رضي الله عنه:" نعمت البدعة هذه"، وهو ما كان فعل خير جاء النص بعمومه استحبابا وإن لم يقرر عمله في النص، ومنها ما يكون مذموما ولا يعذر صاحبه، وهو ما قامت الحجة على فساده فتمادى القائل به " .
الإحكام (1/47).
وقال المجد ابن الأثير رحمه الله تعالى:" البدعة بِدْعَتاَن : بدعة هُدى, وبدعة ضلال , فما كان في خلاف ما أمَر الله به ورسوله عليه الصلاة والسلام فهو في حَيّز الذّم والإنكار , وما كان واقعا تحت عُموم ما نَدب الله إليه وحَضَّ عليه الله أو رسوله عليه الصلاة والسلام فهو في حَيّز المدح , وما لم يكن له مثال موجود كنوْع من الجُود والسخاء وفعْل المعروف فهو من الأفعال المحمودة , ولا يجوز أن يكون ذلك في خلاف ما وَردَ الشرع به، لأن النبي عليه الصلاة والسلام قد جعَل له في ذلك ثوابا فقال :"من سَنّ سُنة حَسنة كان له أجْرها وأجرُ من عَمِل بها"، وقال في ضده :"ومن سنّ سُنة سيّئة كان عليه وزْرُها وَوِزْرُ من عَمِل بها"،وذلك إذا كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله عليه الصلاة والسلام. ومن هذا النوع قولُ عمر رضي الله عنه: "نِعْمَت البدعة هذه"، لمّا كانت من أفعال الخير وداخلة في حيز المدح سماها بدعة، ومدَحها لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يَسُنَّها لهم, وإنما صلاّها لَياليَ ثم تَركَها ولم يحافظ عليها, ولا جَمع الناسَ لها, ولا كانت في زمن أبي بكر, وإنما عمر جمع الناس عليها ونَدَبهم إليها, فبهذا سمّاها بدعة, وهي على الحقيقة سُنَّة, لقوله عليه الصلاة والسلام:"عليكم بسُنَّتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعْدي"، وقوله "اقتَدُوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر"، وعلى هذا التأويل يُحمل الحديث الآخر :"كل مُحْدَثة بدعة"، إنما يريد ما خالف أصول الشريعة ولم يوافق السُّنَّة" .
النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير (1/106-107).
-وبنحوه قال العلامة المفسر أبو عبد الله القرطبي رحمه الله تعالى .
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (2/87).
-وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى:" والبدعة أصلها ما أحدث على غير مثال سابق، وتطلق في الشرع في مقابل السنة فتكون مذمومة، والتحقيق أنها إن كانت مما يندرج تحت مستحسن في الشرع فهي حسنة، وإن كانت مما تندرج تحت مستقبح في الشرع فهي مستقبحة، وإلا فهي من قسم المباح، وقد تنقسم إلى الأحكام الخمسة" .
فتح الباري لابن حجر العسقلاني (4/253).
-وقال العلامة السعد التفتازاني رحمه الله تعالى : " البدعة المذمومة هو المحدث في الدين من غير أن يكون في عهد الصحابة والتابعين، ولا دل عليه الدليل الشرعي، ومن الجهلة من يجعل كل أمر لم يكن في زمن الصحابة بدعة مذمومة، وإن لم يقم دليل على قبحه، تمسكا بقوله عليه الصلاة والسلام:" وإياكم ومحدثات الأمور"، ولا يعلمون أن المراد بذلك هو أن يجعل في الدين ما ليس منه" .
شرح المقاصد للتفتازاني (2/271).
-وقال العلامة الأبي رحمه الله تعالى في "إكمال الإكمال": " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه " : ما ليس من أمره، هو ما لم يسنه ولم يشهد الشرع باعتباره ، فيتناول المنهيات والبدع التي لم يشهد الشرع باعتبارها، وأما التي شهد الشرع باعتبار أصلها فهي جائزة،وهي من أمره" .
إكمال إكمال شرح مسلم للآبي (5/21).
-وقال العلامة الفقيه ابن حجر الهيتمي رحمه الله تعالى :" من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه ": أي مما ينافيه ، أو لا يشهد له شيء من قواعده وأدلته العامة " .
فتح المبين (ص:107).
ثانيا - الأدلة على تخصيص البدعة:
-الدليل الاول ما روى مسلم والنسائي وابن ماجه عن جرير بن عبد الله البجلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سنّ في الإسلام سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء".
________________________________________
قال النووي: فيه الحث على الابتداء بالخيرات وسن السنن الحسنات والتحذير من الأباطيل والمستقبحات. وفي هذا الحديث تخصيص لقوله صلى الله عليه وسلم: "كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" وأن المراد به المحدثات الباطلة والبدع المذمومه اهـ.
وقال السندي في حاشية ابن ماجة: قوله: "سنّة حسنة" أي طريقة مرضية يقتدي بها، والتمييز بين الحسنة والسيئة بموافقة أصول الشرع وعدمها اهـ.
-الدليل الثاني:ما روى بن ماجة بإسناد صحيح عن ابي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من استنّ خيرا [فاستنّ] به كان له أجره كاملا ومن أجور من استنّ به، لا ينقص من أجورهم شيئا ومن استنّ سنة سيئة فاستنّ به فعليه وزره كاملا ومن أوزاره الذي استن به لا ينقص من أوزارهم شيئا".
الدليل الثالث: ما روى ابن ماجة عن أبي [جحيفة] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سنّ سنة حسنة فعمل بها بعده كان له أجره ومثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ومن سنّ سنة سيئة فعمل بها بعده كان عليه وزره ومثل أوزارهم من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا" إسناده جيد.
الدليل الرابع: ما روى أحمد والبزّار والطبراني في الأوسط بإسناد حسن عن حذيفه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سن خيرا فاستنّ به كان له أجره ومن أجور من تبعه غير منتقص من أجورهم شيئا ومن سنّ شرا فاستنّ به كان عليه وزره ومن أوزار من تبعه غير منتقص من أوزارهم شيئا".
الدليل الخامس: ما روى الطبراني بإسناد حسن أيضا عن واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من سنّ سنة حسنة فله أجرها ما عمل بها في حياته وبعد مماته حتى تترك ومن سنّ سنة سيئة فعليه إثمها حتى تترك ومن مات مرابطا في سبيل الله جرى عليه عمل الرابط حتى يبعث يوم القيامة".
فهذه الأحاديث تصريح بتقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة فالحسنة هي التي توافق أصول الشرع، وهي وإن كانت محدثة باعتبار شخصها، فهي مشروعة باعتبار نوعها لدخولها في قاعدة شرعية، او عموم ءاية او حديث، ولهذا سميت حسنة وكان أجرها يجري على من سنّها بعد وفاته.
والسيئة هي التي تخالف قواعد الشرع وهي مذمومة، [والبدعة الضلالة]. قال الأبيّ في شرح مسلم: ويدخل في السنة الحسنة البدع المستحسنة كقيام رمضان والتحضير في المنار إثر فراغ الأذان وعن أبواب الجامع وعند دخول الإمام [والتصبيح] عند طلوع الفجر، كل ذلك من الإعانة على العبادة التي يشهد الشرع باعتبارها. وقد كان علي وعمر يوقظان الناس لصلاة الصبح بعد طلوع الفجر واتفق أن إمام الجامع الأعظم بتونس، وأظنه البرجيني، حيث أتى ليدخل الجامع، سألته امرأة ان يدعو لأبنها الأسير، وكان المؤذنون حينئذ يحضرون في المنار، فقال لها: ما أصاب الناس في هذا يعني التحضير أشدّ من أسر ابنك، فكان الشيخ -يعني ابن عرفة- ينكر ذلك، ويقول: ليس إنكاره بصحيح، بل التحضير من البدع المستحسنة التي شهد الشرع باعتبارها ومصلحتها ظاهرة، قال وهو إجماع من الشيوخ إذ لم ينكره، قيام رمضان والاجتماع على التلاوة، ولا شك أنه لا وجه لإنكاره إلاّ كونه بدعة، ولكنها مستحسنة، ويشهد لاعتبارها الأذان والإقامة فإن الأذان للإعلام بدخول الوقت، والإقامة بحضور الصلاة، وكذلك التحضير هو إعلام بقرب حضور الصلاة اهـ.
[ويجب أن ننبه] على مسئلة مهمة، لا يعرفها أهل العلم، فضلا عمن دونهم، وهي تعين على فهم هذه الأحاديث، ويدرك بها الفرق بين ثلاث حقائق شرعية:
1- سن سنة أو استنانها أي إنشاؤها باجتهاد واستنباط من قواعد الشرع أو عمومات نصوصه، وهذا معنى ما [أفادته] الأحاديث المذكورة بعبارة: "من سن سنةً حسنة" أي من أنشأ سنة حسنة مستندا في ابتداع ذاتها إلى دلائل الشرع كان له أجرها. ومن سن سنة سيئة أي ابتدع سنة مخالفة للشرع، واستند في ابتداعها إلى ما لا تقره الشريعة، كان عليه إثمها.
2- التمسك بالسنة أي اتباعها والعمل بها. وهذا ثابت في أحاديث كثيرة، تحض على إتباع السنة والعمل بها والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.
3- إحياء سنة نبوية، هو إعادة العمل بها بعدما تُركت.
الدليل السادس: ما روى الشيخان عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من احدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" وفي رواية لمسلم: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" وفي بعض ألفاظه: "من أحدث في ديننا ما ليس منه فهو رد".
قال ابن رجب: هذا الحديث يدل بمنطوقه على أن كل عمل ليس عليه أمر الشارع، فهو مردود، ويدل على أن كل عمل عليه أمره، فهو غير مردود اهـ.
وقال الحافظ في الفتح: هذا الحديث معدود من أُصول الإسلام، وقاعدة من قواعده، فإن معناه: من اخترع في الدين ما لا يشهد له أصل من أُصوله فلا يلتفت إليه.
ونقل عن الطوفي انه قال: "هذا الحديث يصلح أن يسمى نصف أدلة الشرع، لأن الدليل يتركب من مقدمتين، والمطلوب بالدليل إما إثبات الحكم أو نفيه، وهذا الحديث مقدمة كبرى في إثبات كل حكم شرعي ونفيه لأن منطوقه كلية في كل دليل ناف لحكم، مثل أن يقال في الوضوء بماء نجس: هذا ليس من أمر الشرع وكل ما كان كذلك فهو مردود، فهذا العمل مردود، فالمقدمة الثانية ثابتة بهذا الحديث، وإنما يقع النزاع في الأولى.
ومفهومه أن من عمل عملا عليه أمر الشرع، فهو صحيح مثل أن يقال في الوضوء بالنية: هذا عليه أمر الشرع، وكل ما كان عليه أمر الشرع، فهو صحيح، فالمقدمة الثانية ثابتة بهذا الحديث، والأولى فيها النزاع" اهـ.
قال الحافظ الغماري: هذا الحديث مخصص لحديث كل بدعه ضلالة، ومبين للمراد منها كما هو واضح. إذ لو كانت البدعة ضلالة بدون استثناء، لقال الحديث: من أحدث في أمرنا هنا شيئا. لكن لما قال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" أفاد أن المحدث نوعان ما ليس من الدين بأن كان مخالفا لقواعده ودلائله، فهو مردود، وهو البدعة الضلالة، وما هو من الدين بأن شهد له أصل، أو أيده دليل، فهو صحيح مقبول، وهو السنة الحسنة.اهـ
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه
الحمد لله بديع السموات والأرض، ذي الجلال والإكرام والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي جاء بالسنة والفرض، وبين الحلال والحرام. ورضي الله عن ءاله الكرام، وصحابته الأعلام.أما بعد:
فهذا بحث بسيط ذكرت فيه معنى البدعة، وبينت حسنها [وسيئها] وحسبما اقتضته الأدلة، في إطار القواعد الأصولية، طارحا للتساهل المرذول.وبالله أستعين فهو الموفق المعين.
أولا - تعريف لبدعة لغة واصطلاحا:
البدعة في أصل اللغة بمعنى الاختراع على غير مثال سابق، ومنه قوله تعالى:{بديع السموات والأرض }[البقرة: 116]، أي مخترعهما على غير مثال سابق، وقوله تعالى:{ قل ما كنت بدعا من الرسل}[ الأحقاف:9]، أي ما كنت أول من جاء بالرسالة من الله إلى العباد، بل تقدمني كثير من الرسل.
وأما في اصطلاح الشرع، فقد عرفها العلماء بتعاريف متعددة خلاصتها:
أن المراد بالبدعة شرعا : " المحدث الذي لم تكن صورته على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولم يكن له أصل جملي متقرر في الشرع، أو كان فيه مخالفة للسنة ".
وعليه ، فإن مفهوم البدعة لا يتحدد في عدم وجود صورته على عهد النبوة فقط، بل لابد أن ينضم إلى ذلك أمران أساسيان :
الأمر الأول: أن يصاحبها ما فيه مخالفة للسنة :
ولهذا قال ابن عبد البر رحمه الله : "البدعة الممنوعة هي التي تخالف السنة .
شرح الموطأ للزرقاني (1/340).
وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى : " المحدثات من الأمور ضربان:
أحدهما: ما يخالف كتابا أو سنة أو آثارا أو إجماعا ، فهذه بدعة ضلالة .
والثاني: ما أحدث من الخير بلا خلاف فيه ، فهذه محدثة غير مذمومة" .
- سير أعلام النبلاء للذهبي (10/70).
-وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله : " ومراد الشافعي أن أصل البدعة المذمومة ما ليس لها أصل في الشريعة ترجع إليه، وهي البدعة في إطلاق الشرع ، وأما البدعة المحمودة فما وافق السنة، يعني ما كان لها أصل من السنة ترجع إليه، وإنما هي بدعة لغة لا شرعا لموافقتها السنة " .
- جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي (ص:267).
-وقال حجة الإسلام الإمام الغزالي رحمه الله تعالى :" ولا يمنع من ذلك كونه محدثا، فكم من محدث حسن ..، إنما البدعة المذمومة ما يصادم السنة القديمة، أو يكاد يفضي إلى تغييرها" .
- إحياء علوم الدين للغزالي (1/176).
-ويقول رحمه الله تعالى أيضا : " وما يقال إنه أبدع بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام، فليس كل ما أبدع منهيا، بل المنهي بدعة تضاد سنة ثابتة، وترفع أمرا من الشرع مع بقاء علته، بل الابتداع قد يجب في بعض الأحوال إذا تغيرت الأسباب" .
- المصدر السابق.
-وقال الشيخ التهانوي رحمه الله :" البدعة هي ما أحدث على خلاف أمر الشارع ودليله الخاص أو العام " .
- كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي (1/179).
الأمر الثاني: أن لا تندرج تحت أصل جملي متقرر في الشريعة :
فإن اندرجت تحت أصل عام ولم يلزم منها مخالفة للشارع فلا تعد بدعة .
-قال الحافظ المنذري رحمه الله تعالى : " والمحدث على قسمين :
محدث ليس له أصل إلا الشهوة والعمل بالإرادة، فهذا باطل.
وما كان على قواعد الأصول أو مردود إليها فليس ببدعة ولا ضلالة " .
- انظر: تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، لمحمد المباركفوري (7/442).
-وقال ابن رجب الحنبلي رحمه الله :" المراد بالبدعة ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه، أما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه فليس ببدعة شرعا، وإن كان بدعة لغة..وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية " .
جامع العلوم والحكم (ص:266).
-وقال ابن حزم رحمه الله تعالى :" البدعة في الدين كل ما لم يأت في القرآن ولا عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، إلا أن منها ما يؤجر عليه صاحبه ويعذر مما قصد إليه من الخير، ومنها ما يؤجر عليه ويكون حسنا، وهو ما كان أصله الإباحة، كما روي عن عمر رضي الله عنه:" نعمت البدعة هذه"، وهو ما كان فعل خير جاء النص بعمومه استحبابا وإن لم يقرر عمله في النص، ومنها ما يكون مذموما ولا يعذر صاحبه، وهو ما قامت الحجة على فساده فتمادى القائل به " .
الإحكام (1/47).
وقال المجد ابن الأثير رحمه الله تعالى:" البدعة بِدْعَتاَن : بدعة هُدى, وبدعة ضلال , فما كان في خلاف ما أمَر الله به ورسوله عليه الصلاة والسلام فهو في حَيّز الذّم والإنكار , وما كان واقعا تحت عُموم ما نَدب الله إليه وحَضَّ عليه الله أو رسوله عليه الصلاة والسلام فهو في حَيّز المدح , وما لم يكن له مثال موجود كنوْع من الجُود والسخاء وفعْل المعروف فهو من الأفعال المحمودة , ولا يجوز أن يكون ذلك في خلاف ما وَردَ الشرع به، لأن النبي عليه الصلاة والسلام قد جعَل له في ذلك ثوابا فقال :"من سَنّ سُنة حَسنة كان له أجْرها وأجرُ من عَمِل بها"، وقال في ضده :"ومن سنّ سُنة سيّئة كان عليه وزْرُها وَوِزْرُ من عَمِل بها"،وذلك إذا كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله عليه الصلاة والسلام. ومن هذا النوع قولُ عمر رضي الله عنه: "نِعْمَت البدعة هذه"، لمّا كانت من أفعال الخير وداخلة في حيز المدح سماها بدعة، ومدَحها لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يَسُنَّها لهم, وإنما صلاّها لَياليَ ثم تَركَها ولم يحافظ عليها, ولا جَمع الناسَ لها, ولا كانت في زمن أبي بكر, وإنما عمر جمع الناس عليها ونَدَبهم إليها, فبهذا سمّاها بدعة, وهي على الحقيقة سُنَّة, لقوله عليه الصلاة والسلام:"عليكم بسُنَّتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعْدي"، وقوله "اقتَدُوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر"، وعلى هذا التأويل يُحمل الحديث الآخر :"كل مُحْدَثة بدعة"، إنما يريد ما خالف أصول الشريعة ولم يوافق السُّنَّة" .
النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير (1/106-107).
-وبنحوه قال العلامة المفسر أبو عبد الله القرطبي رحمه الله تعالى .
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (2/87).
-وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى:" والبدعة أصلها ما أحدث على غير مثال سابق، وتطلق في الشرع في مقابل السنة فتكون مذمومة، والتحقيق أنها إن كانت مما يندرج تحت مستحسن في الشرع فهي حسنة، وإن كانت مما تندرج تحت مستقبح في الشرع فهي مستقبحة، وإلا فهي من قسم المباح، وقد تنقسم إلى الأحكام الخمسة" .
فتح الباري لابن حجر العسقلاني (4/253).
-وقال العلامة السعد التفتازاني رحمه الله تعالى : " البدعة المذمومة هو المحدث في الدين من غير أن يكون في عهد الصحابة والتابعين، ولا دل عليه الدليل الشرعي، ومن الجهلة من يجعل كل أمر لم يكن في زمن الصحابة بدعة مذمومة، وإن لم يقم دليل على قبحه، تمسكا بقوله عليه الصلاة والسلام:" وإياكم ومحدثات الأمور"، ولا يعلمون أن المراد بذلك هو أن يجعل في الدين ما ليس منه" .
شرح المقاصد للتفتازاني (2/271).
-وقال العلامة الأبي رحمه الله تعالى في "إكمال الإكمال": " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه " : ما ليس من أمره، هو ما لم يسنه ولم يشهد الشرع باعتباره ، فيتناول المنهيات والبدع التي لم يشهد الشرع باعتبارها، وأما التي شهد الشرع باعتبار أصلها فهي جائزة،وهي من أمره" .
إكمال إكمال شرح مسلم للآبي (5/21).
-وقال العلامة الفقيه ابن حجر الهيتمي رحمه الله تعالى :" من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه ": أي مما ينافيه ، أو لا يشهد له شيء من قواعده وأدلته العامة " .
فتح المبين (ص:107).
ثانيا - الأدلة على تخصيص البدعة:
-الدليل الاول ما روى مسلم والنسائي وابن ماجه عن جرير بن عبد الله البجلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سنّ في الإسلام سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء".
________________________________________
قال النووي: فيه الحث على الابتداء بالخيرات وسن السنن الحسنات والتحذير من الأباطيل والمستقبحات. وفي هذا الحديث تخصيص لقوله صلى الله عليه وسلم: "كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" وأن المراد به المحدثات الباطلة والبدع المذمومه اهـ.
وقال السندي في حاشية ابن ماجة: قوله: "سنّة حسنة" أي طريقة مرضية يقتدي بها، والتمييز بين الحسنة والسيئة بموافقة أصول الشرع وعدمها اهـ.
-الدليل الثاني:ما روى بن ماجة بإسناد صحيح عن ابي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من استنّ خيرا [فاستنّ] به كان له أجره كاملا ومن أجور من استنّ به، لا ينقص من أجورهم شيئا ومن استنّ سنة سيئة فاستنّ به فعليه وزره كاملا ومن أوزاره الذي استن به لا ينقص من أوزارهم شيئا".
الدليل الثالث: ما روى ابن ماجة عن أبي [جحيفة] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سنّ سنة حسنة فعمل بها بعده كان له أجره ومثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ومن سنّ سنة سيئة فعمل بها بعده كان عليه وزره ومثل أوزارهم من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا" إسناده جيد.
الدليل الرابع: ما روى أحمد والبزّار والطبراني في الأوسط بإسناد حسن عن حذيفه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سن خيرا فاستنّ به كان له أجره ومن أجور من تبعه غير منتقص من أجورهم شيئا ومن سنّ شرا فاستنّ به كان عليه وزره ومن أوزار من تبعه غير منتقص من أوزارهم شيئا".
الدليل الخامس: ما روى الطبراني بإسناد حسن أيضا عن واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من سنّ سنة حسنة فله أجرها ما عمل بها في حياته وبعد مماته حتى تترك ومن سنّ سنة سيئة فعليه إثمها حتى تترك ومن مات مرابطا في سبيل الله جرى عليه عمل الرابط حتى يبعث يوم القيامة".
فهذه الأحاديث تصريح بتقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة فالحسنة هي التي توافق أصول الشرع، وهي وإن كانت محدثة باعتبار شخصها، فهي مشروعة باعتبار نوعها لدخولها في قاعدة شرعية، او عموم ءاية او حديث، ولهذا سميت حسنة وكان أجرها يجري على من سنّها بعد وفاته.
والسيئة هي التي تخالف قواعد الشرع وهي مذمومة، [والبدعة الضلالة]. قال الأبيّ في شرح مسلم: ويدخل في السنة الحسنة البدع المستحسنة كقيام رمضان والتحضير في المنار إثر فراغ الأذان وعن أبواب الجامع وعند دخول الإمام [والتصبيح] عند طلوع الفجر، كل ذلك من الإعانة على العبادة التي يشهد الشرع باعتبارها. وقد كان علي وعمر يوقظان الناس لصلاة الصبح بعد طلوع الفجر واتفق أن إمام الجامع الأعظم بتونس، وأظنه البرجيني، حيث أتى ليدخل الجامع، سألته امرأة ان يدعو لأبنها الأسير، وكان المؤذنون حينئذ يحضرون في المنار، فقال لها: ما أصاب الناس في هذا يعني التحضير أشدّ من أسر ابنك، فكان الشيخ -يعني ابن عرفة- ينكر ذلك، ويقول: ليس إنكاره بصحيح، بل التحضير من البدع المستحسنة التي شهد الشرع باعتبارها ومصلحتها ظاهرة، قال وهو إجماع من الشيوخ إذ لم ينكره، قيام رمضان والاجتماع على التلاوة، ولا شك أنه لا وجه لإنكاره إلاّ كونه بدعة، ولكنها مستحسنة، ويشهد لاعتبارها الأذان والإقامة فإن الأذان للإعلام بدخول الوقت، والإقامة بحضور الصلاة، وكذلك التحضير هو إعلام بقرب حضور الصلاة اهـ.
[ويجب أن ننبه] على مسئلة مهمة، لا يعرفها أهل العلم، فضلا عمن دونهم، وهي تعين على فهم هذه الأحاديث، ويدرك بها الفرق بين ثلاث حقائق شرعية:
1- سن سنة أو استنانها أي إنشاؤها باجتهاد واستنباط من قواعد الشرع أو عمومات نصوصه، وهذا معنى ما [أفادته] الأحاديث المذكورة بعبارة: "من سن سنةً حسنة" أي من أنشأ سنة حسنة مستندا في ابتداع ذاتها إلى دلائل الشرع كان له أجرها. ومن سن سنة سيئة أي ابتدع سنة مخالفة للشرع، واستند في ابتداعها إلى ما لا تقره الشريعة، كان عليه إثمها.
2- التمسك بالسنة أي اتباعها والعمل بها. وهذا ثابت في أحاديث كثيرة، تحض على إتباع السنة والعمل بها والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.
3- إحياء سنة نبوية، هو إعادة العمل بها بعدما تُركت.
الدليل السادس: ما روى الشيخان عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من احدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" وفي رواية لمسلم: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" وفي بعض ألفاظه: "من أحدث في ديننا ما ليس منه فهو رد".
قال ابن رجب: هذا الحديث يدل بمنطوقه على أن كل عمل ليس عليه أمر الشارع، فهو مردود، ويدل على أن كل عمل عليه أمره، فهو غير مردود اهـ.
وقال الحافظ في الفتح: هذا الحديث معدود من أُصول الإسلام، وقاعدة من قواعده، فإن معناه: من اخترع في الدين ما لا يشهد له أصل من أُصوله فلا يلتفت إليه.
ونقل عن الطوفي انه قال: "هذا الحديث يصلح أن يسمى نصف أدلة الشرع، لأن الدليل يتركب من مقدمتين، والمطلوب بالدليل إما إثبات الحكم أو نفيه، وهذا الحديث مقدمة كبرى في إثبات كل حكم شرعي ونفيه لأن منطوقه كلية في كل دليل ناف لحكم، مثل أن يقال في الوضوء بماء نجس: هذا ليس من أمر الشرع وكل ما كان كذلك فهو مردود، فهذا العمل مردود، فالمقدمة الثانية ثابتة بهذا الحديث، وإنما يقع النزاع في الأولى.
ومفهومه أن من عمل عملا عليه أمر الشرع، فهو صحيح مثل أن يقال في الوضوء بالنية: هذا عليه أمر الشرع، وكل ما كان عليه أمر الشرع، فهو صحيح، فالمقدمة الثانية ثابتة بهذا الحديث، والأولى فيها النزاع" اهـ.
قال الحافظ الغماري: هذا الحديث مخصص لحديث كل بدعه ضلالة، ومبين للمراد منها كما هو واضح. إذ لو كانت البدعة ضلالة بدون استثناء، لقال الحديث: من أحدث في أمرنا هنا شيئا. لكن لما قال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" أفاد أن المحدث نوعان ما ليس من الدين بأن كان مخالفا لقواعده ودلائله، فهو مردود، وهو البدعة الضلالة، وما هو من الدين بأن شهد له أصل، أو أيده دليل، فهو صحيح مقبول، وهو السنة الحسنة.اهـ
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه
مواضيع مماثلة
» ليس كل ما ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- فعله فهو بدعة ومحرم.
» شرح حديث جرير (رضي الله عنه)
» حديث الوليد في سرد الاسماء الحسنى
» كشف القول الضعيف في طرق حديث عثمان بن حنيف
» إزالة التهويش والغُبشة عن حديث توسل أمّنا عائشة
» شرح حديث جرير (رضي الله عنه)
» حديث الوليد في سرد الاسماء الحسنى
» كشف القول الضعيف في طرق حديث عثمان بن حنيف
» إزالة التهويش والغُبشة عن حديث توسل أمّنا عائشة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى