سلسلة شرح منظومة (السلم المنورق) في علم المنطق (الدرس الأول)

الحمد لله الذي أظهر لأرباب العقول حقائق المعقول على التحقيق، ودلهم على تصحيح طرق التصور والتصديق، فاستنتجوا بها بدائع الأسرار من دقائق الأنظار، واستخرجوا بها عرائس الأبكار من مخبئات الأسرار، والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ الذي شيد قواعد الإسلام بأفصح منطقٍ وأوضح خطاب، وعلى آله وأصحابه صلاةً وسلامًا دائمين متلازمين إلى يوم العرض والحساب. أما بعد:

فبالرغم من أن الإنسان مفطور على التفكير، وبه يتميز عن غيره من الكائنات بلا نكير، إلا أنَّه من أجل تصحيح تفكيره من حيث الأسلوب والصورة، و من حيث المحتوى والمادة، لا بد له من معرفة قواعد المنطق وقوانينه، وأسسه وضوابطه، وإلا فقد لن يتمكَّن من أن يفكِّر تفكيراً سليما، ولن يقدر على التمييز بين الأشياء تمييزا واضحا، فيقع في الخطأ والإنحراف الفكري، من غير أن يعرف سبب ذلك الإنزلاق الفكري والنظري.

وبناءً عليه فإن هذا العلم وسيلة إلى تصحيح عملية التفكير في مجال العلوم الأخرى، فمن لم تكن لديه أية مخزونات علمية، لا يمكنه استخدام قواعد المنطق أصلاً، فيكون حاله كالغواص من غير بحر، أو كالنجار من غير خشب، كما أنَّه لو كان بحرا من العلوم -وهو غير مُطَّلع على قوانين المنطق أو لا يراعيها- فلا ضمان لصحَّة أفكاره أصلاً.

لهذا فقد قررنا أن نبْسُط شرحا ميسرا على منظومة (السلم) المشهورة في علم المنطق، والتي ألفها العلامة الشيخ عبد الرحمن الأخضري (رحمه الله)، وهي عبارة عن متن في علم المنطق من بحر الرجز نظمها الشيخ (رحمه الله) سنة (941هـ) وهو ابن إحدى وعشرين سنة. وتحتوي على مائة وثلاث وأربعين (143) بيتا، وقد شرحها المؤلف (رحمه الله) ولها شروحات كثيرة لأهل العلم منها:

أ- شرح شيخ الشيخ أبي راس الناصر المعسكري(ت 1192هـ): المسمى "القول المسلم في شرح السلم"(33).
ب- شرح الشيخ أبي عبد الله محمد بن خليفة(ت 1094هـ).
ج- شرح الشيخ أحمد بن عبد المنعم بن يوسف الدمنهوري(ت 1192هـ): المسمى" إيضاح المبهم في معاني السلم"(34).
د- شرح الشيخ أبي عبد الله محمد الصالح بن سليمان العيسوي الزواوي(ت 1243هـ).
هـ- شرح الشيخ الحسن درويش القويسني(ت 1254هـ) (35).
و- شرح الشيخ أحمد عبد الفتاح بن يوسف المجيري.
ي- شرح الشيخ أبي عثمان سعيد بن إبراهيم قدورة(ت 1066هـ) (36) وغيرها .

وقبل أن نبدأ في الشرح، سنقدم ترجمة موجزة للشيخ، ثم مقدمة توضيحية في مبادئ علم المنطق، ثم نشرع في المقصود، إن شاء الله الواحد المعبود .

أولا – ترجمة الشيخ عبد الرحمن الأخضري (رحمه الله):
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هو عبد الرحمن بن سيدي محمد الصغير بن محمد ابن عامر الأخضري البنطيوسي البسكري الجزائري المالكي 920-983هـ / 1512-1575 له (الجوهر المكنون في ثلاثة فنون) منظومة في البلاغة أوجز فيه (التلخيص) وشرحه (حلية اللب المصون على الجوهر المكنون). وله (الدرة البيضاء) في علمي الفرائض والحساب، نظما وشرحها في جزأين. وله (السلم المنورق في المنطق) وهي هذه المنظومة وقد شرحها أيضا، وله: (مختصر) في العبادات، يسمى (مختصر الأخضري ) على مذهب مالك، وله (شرح السراج ) في علم الفلك، ونظم فيه، وغيرها.
تعلم على يد أبي يحيى بن عقبة في قفصة وقطن تونس من سنة ثمان وعشرين وأخذ بها عن أبي عبد الله القلجاني ثم عن ولده عمر وكذا عن قاسم العقباني حين اجتيازه بهم ولم يكن عنده أجل منه بل كان يصفه بالاجتهاد المطلق وأنه لا يفتي إلا بمذهب مالك وأما في خاصة نفسه فلا يعمل إلا بما يراه، وتقدم في الفقه والأصول والعربية والمنطق وغيرها وشارك في الفضائل وتصدر للتدريس والإفتاء وانتفع به الفضلاء وكان متين الديانة زاهداً ورعاً تام العقل مهاباً مع حسن العشرة والملاطفة والتقنع باليسير لا يخاف في الله لومة لائم وأعرض عن الفتيا حين اختلاف الكلمة. دفن بمسقط راسه وقبره في زاوية بنطيوس 30 كلم من مدينة بسكرة إحدى ولايات الجزائر من ناحية الجنوب الشرقي.ومقامه ومسجده قائم بها وقد دفن بجوار امه حدة وبقية عائلته. اهـ هذه ترجمته باختصار.

ثانيا – مبادئء علم المنطق العشرة وقد جمعت في قوله :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إنّ مبــــادِيْ كــــل فـــــنٍ عشــــره ... الحدّ والموضوع ثم الثمـره
ونسبــــة وفضلــــــه والواضـــعْ ... والْإِسم الِاستمداد حكم الشارعْ
مسائلٌ و البعض بالبعض اكتفى ... و من درى الجميع حاز الشرفا.اهـ

1 – حد علم المنطق: المنطق لغة مشتق من النطق، نَطَقَ الناطِقُ يَنْطِقُ نُطْقاً، تكلم، والمَنطِق الكلام، والمِنْطِيق البليغ، وأنشد ثعلب:

والنَّوْمُ ينتزِعُ العَصا من ربِّها *** ويَلوكُ ثِنْيَ لسانه المِنْطِيق. اهـ

وقد أَنْطَقَه الله واسْتَنْطقه، أَي كلَّمه، وناطَقَه، وكتاب ناطِقٌ، بيِّن على المثلِ كأَنه يَنْطِق، قال لبيد:

أوْ مُذْهَبٌ جَدَدٌ على ألْوَاحِهِـ *** نَّ الناطقُ المبروزُ والمَخْتومُ .اهـ

وكلام كل شيء مَنْطِقُه، ومنه قوله تعالى: {عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطير} قال ابن سيده: وقد يستعمل المَنطِق في غير الإنسان، كقوله تعالى: {عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطير} وأَنشد سيبويه:

لم يَمْنع الشُّرْبَ منها غَيْرَ أَن نطقت *** حمامة في غُصُونٍ ذاتِ أَوْقالِ.اهـ

- واصطلاحا: قواعد وضوابط يعرف بها أحوال المعلومات التصورية والتصديقية من حيث أنها يُتَوصل بها إلى مجهول تصوري أو تصديقي، وإن شئت قلت في رسمه: علم يعرف به كيفية التوصل بالمعلوم إلى المجهول، وإن شئت قلت باعتبار أنه آلة: هو آلة قانونية تعصم مراعاته الذهن عن الخطإ في فكره، قال بعضهم:

وحـــــــده إن رمـتـــــــه والحــــــد ... بالجـامع المـانع حـدًا يـبــدو
عـلـم به يعــــرف مـا ينتقـــــــل ... عن حاصل به لــما يستــحصل
أو آلـة تعصـم ذهـن مـن نظـر ... فيـها من الخطأِ في غوص الفـكـر.اهـ

وسمي المنطق قانوناً لأن مسائله، قوانين، أي قواعد كلية تنطبق على جزئياتها. وهذه القوانين في الحقيقة هي عبارة عن الإدراكات الكلية للنفس .
2 – وموضوع هذا العلم: هو المعلومات التصورية والتصديقية من حيث صحة إيصالها إلى المجهولات التصورية أو التصديقية.
3 – وثمرة هذا العلم: مراعاته تعصم الفكر من الخطإ، كما تعصم مراعاة النحو اللسان عن اللحن.
وغاياته وفوائده كثيرة منها:
(أ) - أنّنا بتعلّمنا قواعد المنطق، نستطيع أن ننتقد الأفكار والنظريّات العلميّة، فنتبيّن أنواع الخطأ الواقع فيها، ونتعرّف على أسبابها، وبالتالي فهو ينمي الروح النقدية لدى دارسيه أو محبيه.
(ب) - أنّنا نستطيع أن نميّز المناهج العلميّة السليمة التي تؤدي إلى نتائج صحيحة من المناهج العلميّة الغير السليمة التي تؤدي إلى نتائج غير صحيحة.
(ج) - أنّنا نستطيع أن نفرّق بين قوانين العلوم المختلفة، وأن نقارن بينها ببيان مواطن الإلتقاء والشبه، ومواطن الاختلاف والافتراق.
(د) - المنطق يعودنا اختيار ألفاظنا بدقة متناهية ، فهو يعتمد على العلاقة بين الألفاظ والجمل .
(ه) - المنطق يجنبنا الوقوع في خطأ التفكير، وكذلك يبعدنا عن تأثير الدعايات والاستهواءات والإشاعات، لأننا نُخْضع كل ما نتلقاه من قضايا لمبادئ العقل والمنطق، وبالتالي يمكن التمييز بينها في ضوء سليم .
4 – نسبة علم المنطق إلى غيره من العلوم: أنه من العلوم العقلية، و نسبته للعقل تشبه نسبة علم النحو للسان المتكلم، فكما أن متعلم النحو كلما ازداد منه تمكناً، قل خطؤه ولحنه في تحريك أواخر الكلمات التي يلفظها، حتى إذا رسخت قواعده في نفسه، ندر بل ربما استحال عادة عليه أن يلحن.
فكذالك المنطقي كلما رسخ في هذا العلم، ندر وقوعه في الخطأ في الفكر، فتعصم مراعاة قواعده الذهن عن الغلط في فكره، ولهذا قال بعضهم:

إن رمت إدراك العلوم بسرعة ... فعليك بالنحو القويم ومنطق
هذا لميزان العقول مرجــح ... والنحو إصلاح اللسان بمنطق.اهـ

5 – فضله: أنه علم شريف، وفضله يعرف بمعرفة أنه من مبادئ علم العقائد التي هي من أشرف العلوم، وأنه من مبادئ علم أصول الفقه، وأن منفعته وفائدته عامة في كل علم من العلوم، فمن ذلك أنه مفيد في إثبات بعض العقائد الدينية بالبراهين العقلية، وتزييف العقائد الباطلة الفاسدة.
6 – واضع هذا العلم: أَرَسْطو طاليس أو أَرَسْطاطاليس ( 322 ق.م 384 ق.م ) وهو تلميذ أفلاطون ومعلم الإسكندر الأكبر، لقد كان أَرَسْطو الفيلسوف الإغريقي، أول من هذبَ علم المنطق، ورتب مسائله وفصوله، وأول من ألف فيه، وتعرف مجموعة ملفاته بـ (الأورغان)، ولكن أصل علم المنطق كان موجودا قبله بمعنى أنه لم يبتكره، كما حكى عنه ابن سينا ذلك، ولقب أرسطو بـ (المعلم الأول)، وذلك بسبب اهتماماته في خدمة هذا العلم. ولقد ترجمت كتب أرسطو في المنطق إلى العربية في القرن الثاني الهجري، وقيل في القرن الأول، من قبل النقلة السريان وأشهرهم إسحاق بن حنين (ت 950 م)وهو الذي ترجم كتاب المقولات، ثم جاء الفارابي(950م) فنقح الكتاب و أضاف إليه شروحات حتي أنهم أطلقوا عليه المعلم الثاني، ثم تلاه الشيخ الرئيس ابن سينا (980-1037 م)، ثم بعد ذلك قام أبو حامد الغزالي (ت سنة 505هـ - 1111 م) بمزج علم المنطق بعلوم المسلمين، ثم بعد ذلك أُلِّفت فيه تآليف عديدة منها:

- هذا النظم وشروحاته .
- الشفاء، والإشارات والتنبيهات، لابن سينا،
- أساس الاقتباس، للخواجة نصير الدين الطوسي الشيعي، وهو باللغة الفارسية .
- الجوهر النضيد في شرح منطق التجريد .
- الرسالة الشمسية وشروحها
- متن إيساغوجي وشروحاته
- معيار العلم للغزالي ، وغيرها كثير.
ومن التآليف الحديثة :
- آداب البحث والمناظرة للشنقيطي
- ضوابط المعرفة لحبنكة الميداني
- تدعيم المنطق - للشيخ سعيد فودة، وغيرها كثير .

7 – اسم هذا العلم هو: علم المنطق، وكلمة منطق في اللغة العربية: مشتقة من النطق أي الكلام، ولكن المقصود هنا المعاني أو دلالات الألفاظ ، وهذا الاسم لفظ مشترك بين ثلاثة معاني:
الأول - مصدر ميمي، بمعنى الإدراك الكلي من نطق بمعنى فهم المعاني الكلية.
الثاني - اسم مكان، وهو القوة العاقلة التي هي محل صدور تلك الإدراكات.
والثالث - مصدر ميمي، بمعنى اللفظ الذي يبين ويظهر فهم المتكلم لهذه الإدراكات أي المدرَكات.
وسمي منطقا، لأنه في اللغة يطلق على هذه المعاني الثلاث، ولما كانت هذه مترابطة وموجودة في هذا الفن، سمي حينئذٍ منطقًا، ويقال له أيضاً: معيار العلوم، وعلم الميزان .
8 – استمداد هذا العلم: من العقل، وكما لا يخفى على المتأمل، فإن النفس تذعن لمسائله، والعقل يوافق عليها ويجدها مغروسة فيه .
9 - حكم الإشتغال بهذا العلم: بعد أن انتهى إلينا منقحاً غير مشوب بكلام الفلاسفة الذي فيه الحق وفيه الباطل، فهذا هو المنطق المحرر المحمود الذي منه السلم وشروحه، ومختصر الإمام السنوسي، ورسالة إيساغوجي لأثير الدين الأبهري، والرسالة الشمسية للكاتبي، وكتاب تهذيب المنطق لسعد الملة والدين العلامة المحقق التفتازاني، فهذا لا خلاف في جواز الاشتغال به، حتى قال بعض العلماء هو فرض على الكفاية منهم الغزالي، وهذا هو الظاهر من كلام العلامة المختار بن بونا في تحفته، قال:

وإن تقل حـــرمه النواوي ... وابن الصلاح والسيوطي الراوي
قلت نرى الأقوال ذي المخـالفه ... محلها مـا صنف الفـــلاسفه
أما الذي خـلصـــــه من أسـلـما ... (لابـد) أن يعلم عـند العلــما
لأنـه الـمصحــــح العقـائـــــدا ... ويدرك الذهنُ بـه الـــشواردا. اهـ

وسيأتي زيادة بيان عند قول الناظم: [والخلف في جواز الاشتغــــال به... إلخ
10 – مسائل هذا العلم: هي القضايا النظرية الباحثة عن هيئة التعريف والقياس وما تعلق بهما، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله بالتفصيل حين نشرع في مسائله، وبالله التوفيق .

وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد، وآله وصحبه وسلم تسليما، والحمد لله حمدا كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا.