مقدمة في علم النسب لكاتبها (الحسين بن حيدر رحمه الله)
صفحة 1 من اصل 1
مقدمة في علم النسب لكاتبها (الحسين بن حيدر رحمه الله)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد: فهذه مقدمة في علم النسب لكاتبها الشريف الحسين بن حيدر(رحمه الله ونفعنا بعلمه) قال:
لكل علم مباديء ، بها تتجسَّد مَعَالِمُه ، وتَشْخُصُ رُسُومُه ، وتُعرف ماهيته ، ويستبين حَدُّه ، وهذه المباديء جمعها العلامة الصَّبَّان في قوله :
إنَّ مَبَادِيَ كُلِّ فنٍّ عَشرهْ >>> الحدُّ ؛ والموضوعُ ؛ ثُمَّ الثَّمَرَهْ
ونِسْبَةٌ ؛ وفَضْلُهُ ؛ والواضِعْ>>> والاسمُ ؛ الاستمدادُ ؛ حكمُ الشارعْ
مسائلٌ ؛ والبعض ُبالبعضِ اكتفى ؛>>> ومن درى الجميعَ حازَ الشرفا
وقال أحمد المقري التلمساني :
مَــن رامَ فــنـًّا فــلْيــُقـــــدّمَ أولا ؛ >>> علماً بِحَدِّهِ ؛ وموضوعٍ تلا
وواضـــعٍ ؛ ونِسْـبة ؛ وما اســتمدّْ>>>منه ؛ وفضلِه ؛ وحُكْمٍ يُعتمـدْ
واســـمٍ ؛ ومــا أفـــادَ ؛ والـمسائل ؛ >>>فتلك عشرٌ للـمُـنى وسائلْ
وبعضُهم منها على البعض اقتصرْ >>>ومَن يكنِ يدري جميعَها انتصـرْ
ونحن نشرع في تبيين هذه المباديء العشرة في علم النسب ، لأننا لمسنا عدم وضوح معالمه لكثير من الناس حتى لأغلب الذين يخوضون فيه :
1/10 حَدُّ علم النسب
عِنْدَ الْتَّعْرِيْفِ بِمُصْطَلّحٍ مَرَكَّبٍ مِنْ كِلْمَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فَإِنَّهُ لَابُدَّ مِنْ تَعْرِيْفِ كُلِّ كَلِمَةٍ عَلَىَ انْفِرَادٍ ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَتِمُّ الْتَّعْرِيْفُ بِالْمُصْطَلَحَ كَمَا هُوَ فِيْ حَالِ الْتَّرْكِيْبِ . فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْرِيْفِ الْعِلْمِ وَحْدَهُ وَالْنَّسَبِ وَحْدَهُ أَوَّلَاً ، حَتَّىَ نَقِفُ عَلَىَ حَدِّ هَذَا الْعِلْمَ عَلَىَ الْوَجْهِ الْأَفْضَلِ.
فالعِلْمُ في اللغة مصدر علِم يعلم ، وهو خلاف الجهل ونقيضه ، وهو إدراك الشيء على ما هو عليه إدراكاً جازماً .
فالعلم هو: إدراك الشيء على حقيقته كما هي.
والوَهْمُ : إدراك الشيء على غير حقيقته.
والظَّنُ : إدراك الشيء على حقيقته مع احتمال مرجوح .
والشَّكُ: إدراك الشيء على حقيقته مع احتمالِ مساوٍ له .
هذه معاني هذه المفاهيم في منطق اللغات التي لابد من ذكرها عند التعريف بالعلم.
والعلم في الاصطلاح: مجموع مسائل وأصول كليّة تدور حول موضوع أو ظاهرة محددة ؛ وتعالج بمنهج معين ، وينتهي إلى النظريات والقوانين .
أو هو: منظومة من المعارف المتناسقة التي يعتمد في تحصيلها على المنهج علمي دون سواه.
والنَّسَبُ فِي اللُّغَةِ : مَصْدَرُ نَسَبَ ، يُقَال : نَسَبْتُهُ إِلَى أَبِيهِ نَسَبًا إذَ عَزَوْتُهُ إِلَيْهِ ، وَانْتَسَبَ إِلَيْهِ : اعْتَزَى . وَالاِسْمُ : النِّسْبَةُ بِالْكَسْرِ ، وَقَدْ تُضَمُّ . قَال ابنُ السِّكِّيتِ : يَكُونُ النَّسَبُ مِن قِبَل الأبِ وَمِن قِبَل الأمِّ . والذي قاله ابنُ السِّكِّيتِ هو الحق ، وأخطأ من اللغويين قال : هو من قِبَلِ الأبِ فقط . لأنَّ هذا تعريفه في الاصطِلاح لا في اللغة ، أما في اللغة فهو يشمل ما كان من جهة الأبِ وما كان من جهة الأم ، ولا فرق . وَليس بِجَيِّدٍ قول من قَال من الفقهاء : هُوَ الاِنْتِسَابُ لأَِبٍ مُعَيَّنٍ . لأنَّه تعريفٌ غيرُ جامعٍ ، إذ يلزم في بعض الحالات أن ينتسب الابن إلى أمه كما في اللعان ، وإن كانت الأم أحد الأبوين . ولا بدَّ في التعريف من أن يكون جامعاً لما يلزم ؛ مانعاً لما لا يلزم . كما أن لعلم المواريث مصطلحاته التي اصِطلحتها الشريعة لأجل الحكمة في توزيع التركات باعتبار الأحوج والأشد عَوَزَاً ، ولا يعني إخراج المحجوب وغير الوارث من الأقارب من حظيرة القرابة والنسب .
والنَّسِيْبُ هو : القريبُ الذي بينك وبينه رابطةُ نسبٍ . وأخطأ من عرَّف النسب لغة بأنه بمعنى القرابة رأساً .
أمَّا النَّسَبُ فِي الاِصْطِلاَحِ فقد عرفته الموسوعةُ الفقهيةُ الكويتيةُ بأنه: القَرَابَةُ وَهِيَ الاِتِّصَال بَينَ إِنسَانَيْنِ بِالاِشتِرَاكِ فِي وِلاَدَةٍ قَرِيبَةٍ أَوْ بَعِيدَةٍ .
وهذا تعريف للنَّسَبِ اصطلاحاً مِن حيثُ مَا هو نَسَبٌ فقط . وليس تعريفاً لعلم النسب من حيث ما هو علم للنسب ، وهو صالح لأن يكون تعريفاً للنسب في اصطلاح المؤرخين أيضاً ، والتعريف يشمل الولد والوالد ، وهو النسب العمودي ، من قِبَلِ الأب ومن قبل الأم ، ويشمل القرابة التي تكون أفقية لكل أجيال السلسلة كالإخوة والأعمام والأخوال .
وعُرِّف النسبُ أيضاً بأنه : الرابطة التي تكون بين الوالد والولد .
أما تعريف علم النسب مركباً في اصطلاح فلاسفة التاريخ ، فقد قالوا فيه : علم ، يُعْرَفُ مِنه أَنْسَابَ الناسِ ؛ وقواعِدَ الانتسابِ .
أو عرَّفوه بعبارة أخرى : علمٌ يُتعرَّفُ منه أنسابَ النَّاسِ ، وقواعِدَهُ الكُلِّيَّةِ وَالجُزْئِيَّةِ.
وخَصُّوُهُ بِالناسِ لأنَّ غالباً ما يُعني به أنساب الناس ، وإلا فإن للحيوان البهيم نسبٌ ، وقد ألَّفَ العلماء في أنساب الخيل مثلاً .
هذا التعريف متى نظرنا إليه كعلم له ضوابطه وقواعده وأصوله . ولكن بتعريفهم هذا يكونوا قد صنفوه ضمن العلوم الآلية أو العلوم المساعدة للعلوم الأساسية ، كما هو علم أصول الفقه بالنسبة للفقه ، ولذا فإن علم النسب ؛ علم له جانبان ، أولهما هو الجانب الأساسي ، ونقول في حَدِّهِ : علمٌ يُعرف به وَجْه رابطة القرابة التي بين شخص وآخر . أو العلم بوجه القرابة التي بين شخص وشخص ، أو بين جماعة وجماعة .
ومتى أردنا بالنسب خصوص تلك العلاقة التي بين الوالد والولد فإنا نقول في تعريف علم النسب : علمٌ يُعرف به وجه اتصال والدٍ وإنْ علا بولدٍ وإنْ نزل .
أو هو : علم يعرف به وجه اتصال أصل بفرع أو فرع بأصل .
هذا متى نظرنا إليه كعلمٍ بسيط مِن غيرِ دِرَايَةٍ بتلك القواعد والأصولِ. وفي الحقيقة ما دامت هذه حاله فإنه يفقد استقلاليته ويكون تابعاً لعلم التاريخ ، كعلم من بعض علومه ، والتاريخ قد عدَّه بعضُ الفلاسفة ضمن مقامات الفنون ولم يصنفوه ضمن مقامات العلوم. وعلى أي حال فإن هذا القسم من علم النسب هو الذي يستفيد منه كل وارد لمنهله ، وهو بمثابة مسائل علم الفقه بالنسبة لمسائل أصول الفقه.
أما الجانب الثاني الذي لعلم النسب ؛ فهو الجانب الآلي ، حيث أنه يُصَنَّفُ كعلمٍ مساعد للقسم السابق ، فمنه يُستفاد في تحصيل المَلَكَةِ لدى العالم بالنسب في اتخاذ الحُكم ، وتقرير نتيجة تَوَصَّل لها ، لأنه العلم الذي يتضمن المسائل الأصولية التي لعلم النسب والتي هي بمثابة مسائل علم أصول الفقه بالنسبة لمسائل الفقه . ومن أجل ذلك فإن بعض فلاسفة العلوم صنفوا هذا القسم كتصنيفهم لقسيمه ، وهذا القسم هو الذي يصدق فيه قولهم : علمٌ يُتعرَّفُ منه أنسابَ النَّاسِ ، وقواعِدَهُ الكُلِّيَّةِ وَالجُزْئِيَّةِ. وإنَّه لَكَذلك فإنه يجب أن نزيد في التعريف: ومعرفة حال المستفيد. لأن العلماء نَصُّوا على أوصاف للنسابة صاحب هذه الصنعة ، منها العدالة والصلاح والضبط والتثبت والقريحة الجيدة ..
أما عن كيفية الاستفادة من الأنساب فهذا متروك للباحثين في التاريخ والاجتماع وعلم الإنسان ، إذ كلٌ يستفيد منها بحسب ما تقتضيه تلك العلوم من تَصَوُّرٍ لمسائل النسب.
وإنما عرَّفْنَاه بقولنا : علمٌ يُعرف به وَجْه رابطة القرابة التي بين شخص وآخر . لأجل أن النسب ليس هو مجرد الرابطة التي تكون بين الوَالِدِ وإنْ عَلا والوَلَدِ وإنْ نزل ، وإنما هذه الرابطة تكون أيضاً بين المرء والأب وإن علا ، والابن وإن نزل ، والأخ وعقب الأخ ، والعم وعقب العم .
ولذا فإن النسب ينقسم إلى :
1. نَسَبٌ صُلْبِيٌّ : وهو الرابطة التي بين الوالد والولد . وهو يشمل نسب المرء الذي بينه وبين آباءه الذكور ، ونسبه الذي بينه وبين كل أنثى ولدته ، ولكن الناس اطمأنت نفوسهم لعُرْفِ الشرائع المنزلة منذ القدم ؛ وكان مقصدها ضبط معيشة الإنسان على حالٍ واحدة بها يكون حفظ الأنساب ؛ وصلاح المجتمعات ؛ وصون الأعراض .
2. نَسَبُ قَرَابَةٍ : وهم الإخوة وأولادهم والأخوات ، والأعمام في أي جيل كانوا وأولادهم والعمَّات . ومن أجل ذلك فإنه لما نزل قول الله تعالى : {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} نادى النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم في عموم قريش ، ولكنه رتَّبَ قبائلَ قريش أمامه على مراتبٍ كالشجرة ، شجرة النسب التي استوحى صورتها النسابون من هذا الترتيب ، فكان هو في أعلى فرع لها كالثمرة ، فرتبهم بحسب القرب والبعد النسبي الذي بينهم وبينه ، وهذا النوع من النسب يقال له : رَحِمٌ في الغالب ، وإنما قلنا : رحم في الغالب . لأن الرَّحم تشمل الولد والوالد أيضاً ، وهي تشمل كل قريب على الإطلاق ؛ ولذا فإنَّ الشريعةَ تلطَّفت معه في باب التركات لما لم يكن له فريضةٌ فيها ؛ فأبقتْ له مسمى القرابة بلفظ الرَّحِمِ ، ولم تَسْلَخْ عنه القُرْبَى ، فالرحيمُ في باب المواريث كُل قَرِيبٍ ليس ذَا فَرْضٍ مُقَدَّرٍ وَلاَ هو من العَصَبَة ، ونعرف معنى مدلول الكلمة متى عرفنا مراد المتكلم ، لأن الألفاظ ليست بذواتها وإنما على حسب مراد المتكلم ، ولذا فإن مراد الله تعالى من القربى في قوله {قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} لا تشمل كل قريش في كلام المحققين من أهل العلم ، وإنما هي في خصوص بني هاشم كما نصَّ عليه أهل العلم كما أفاده الشافعي في كتابه الأم .
أما أولاد البنات ، وأولاد الأخوات ، وأولاد العمات ، فكل أولئك قرابة أيضاً لا يُمارِي أحدٌ في ذلك ، ولكنهم قرابة دون التي في إطلاق عُرْفِ الناس ، وهي قرابة نَسَبٍ نِسْبِيٍّ أيضاً .
وبعض الفقهاء جعل للنسب قِسماً آخر دعاه بالعَصَبَةِ ، وفي الحقيقة أن العصبة ليسوا من أقسامه ولا من طبقاته ، وإنما من صفات أهله ؛ أو هي حَمِيَّة طبيعية تلازم كل طبقة من طبقاته ؛ وتتفاوت شدتها في كل طبقة بحسب قربها وبعدها من الفرد المَحْمِي ، فالمقصود بهم الذين يتعصَّبون للمرء لأجل القرابة التي بينه وبينهم ، وهذه العصبية على طبقات ومراتب كتلك التي شَكَّلها النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم أمامه وهو على الصفا ، فحال المرء مع العصبية التي له مع طبقات النسب تجعله بمثابة مركز دوائر تحيط به ؛ دائرة على إثر دائرة ..
أمَّا في اصطلاح النُّحَاةِ فقد عُرِّفَ النَّسَبُ بأنه : إلحاق الفروع بالأصول بياء مشددة في آخره . نحو : قُرَشِيٌّ ، عَنَزِيٌّ ، قِبْطِيٌّ . وهو تعريف غير جامع . والأفضل أن يقال فيه : هو عزو شيءٍ إلى والدٍ ، أو بلدٍ ، أو مهنة ، أو وصف، بياء مشددة في آخره ، مع كسر آخره. وقلنا في التعريف : شيءٍ ، حتى يشمل ذلك كل حيوان ؛ ونبات ؛ وجماد . وقلنا : والدٍ ؛ ليشمل الذكر والأنثى ، نحو : عَلَوِيٌّ في النسبة للذَّكر ، فَاطِمِيٌّ في النسبة للأنثى . والبلد : نحو رجل مِصْرِيٌّ ، للحي ؛ وثوبٌ حَضْرَمِيٌّ ، للجماد ؛ وزعفرانٌ خُرَسَانِيٌّ ، للنبات. والمهنة نحو : رجل اسْكَافِيٌّ . والوصف كقولنا : هذا حِمارٌ وَحْشِيٌّ ، نسبةً إلى الوَحْشِ.
2/10 موضوع علم النسب
أشخاص الآدميين من حيث انتماءهم إلى أصل يُعْزَوْن إليه ، فينتسبون إليه إما وِلادَةً ، أو وَلاَءً ، أو حِلْفاً .
فموضوع هذا العلم البحث في هذه النِسْبَة من حيث الرواية أو الدراية ، أو الرواية والدراية معاً. وفي الأسماء مفردةً أو مضافة لاسم أو سلسلة أسماء برابطة قرابة ؛ فيَبْحَثُ في ضبط هذه الأسماء مفردةً أو متصلةً تَحسُّبَاً لأيِّ عَارِضٍ ، ضَبْطٌ في نُطْقِهَا ، وضبطٌ في عَزْوِها لأصلها ، ويبحث في حال تلك السلاسل ، أي في تشَعُّبِها ، وفي القُرْبِ والبُعْدِ درجةً وكيفيةً ؛ وفي الطَّرِيف والقَعْدُدِ ، وفي الاتصال والانقطاع ، كما يبحث في حال مصادر تحصيل الأنساب ، وغير ذلك من المسائل التي قد تناولها العلماء ونَهَّجُوا لتبيينها المناهج التي أملتها عليهم طبيعة مباحثاتهم لعلم النسب والاستفادة منه. فللمؤرِخِين مناهجهم ، وللمُحَدِّثِين مناهجهم ، وللباحثين الاجتماعيين مناهجهم ، ولِلُغَويين مناهجهم .. ومتى كان العالم بالأنساب على دراية بعلم آليته كلما كان أوفق لتفهم موضوعاته والاستفادة منه والإفادة لغيره .
وقلنا : إن موضوعه أنساب الآدميين على وجه العموم ، ويمكن أن يشمل نسب كل مُحْدَثٍ نَامِي ، واستعمل في الغالب في تدوين ودراسة أنساب الإنسان.
وإنما قلنا على وجه العموم ، فلأجل أن الغالب أن يتناول العالم بالنسب بالدراسة النسب الشرعي الناتج عن نكاح أو استيلاد وإن اختلفت الأديان ، وفي النادر من يدرس أنساب اللقطاء وأولاد السفاح واللعان ، وهؤلاء يُدعون عند النسابين الغربيين بالأولاد الغير شرعيين ، وكان منهم بعض ملوكهم وعظماءهم . والمراد بالمحدث ؛ كل ما كان سوى الله تعالى ، فكلمة محدث تشمل كل ما هو مخلوق . والمراد بكلمة النامي ؛ كل ما كان النمو من طبعه ؛ وهو الحيوان والنبات.
3/10 ثمرة علم النسب
لعلم الأنساب فوائد وثمرات كثيرة ، وتختلف هذه الثمرات والغايات مع اختلاف العلم الذي يُقَارِنه ويتأثَّر به من العلوم التي تستفيد من بياناته وتعتمد على نظرياته وفلسفته .
وهو في الغالب يكون مقترناً مع سرد الوقائع التاريخية ، لأنه وإن كان لعلم النسب شُبْهَةُ استقلال ، إلا أن بينه وبين علم التاريخ عمومٌ وخصوصٌ من وجه كغيره من العلوم الإنسانية والاجتماعية التي تأثر في بعضها وتتأثر ببعضها ، ويجب ملاحظة أن كل علم يكون مستقلاً في حد ذاته ، أما بالإضافة إلى العلوم الأخرى فإن بعض العلوم تفقد الاستقلالية وتكون من العلوم الآلية أو المساعدة في تحصيل العلم المطلوب ، كعلم النحو العربي ، هو علم مستقل ، ولكن بإضافته إلى العلوم الشرعية فإنه يعد من العلوم الآلية .
ففائدة علم النسب في مجال علم النسب المحض Genealogy:
أما ثمراته هنا فكثيرة لا سيما متى نظرنا إليه من غير وجهته الآلية ، وقد بيَّن بعضَها كثيرٌ من الباحثين فيه ، المُجَدِّدِيْنَ لِحُلتِه ؛ والتي تنضوي كلها تحت إحساس الإنسان بالحيوية في تفاعله وتعامله مع مجتمعه ، وشعوره بالمسؤولية والجِدِّيَّة في التعايش ، وتُشْبع نفسه بالمحبة للمجتمع والألفة مما ينتج عن ذلك التماسك بين مُكوناتٍ المجتمع ، والتكامل والتكافل بين أفراده ، وتحصل لدى الفرد العصبية الواجبة لأجل النُّعرة والتَّناصر ، فحيث تكون العصبية مرهوبة ومخشيَّة ، والمنبت فيها زكيٌّ محميُّ تكون فائدة النسب أوضح ، وثمرتها أقوى ، فمعرفة النسب وتعدد الآباء وذكر مآثرهم وخلالهم الحميدة وهو الحسب كلاهما عصمة للنفس من ركوب الآثام وتلقُّفها ، لأن لكل إنسان جانبان اثنان ، جانب مادي وهو النَسَبُ وهو سلسلة أسماء آباءه وأمهاته ، وجانب رُوحي وهو الحَسَبُ ، وهو سلسلة مآثر آباءه وأمهاته ، فالحسب يسير مع النسب حذو القُذَّة بالقُذَّة ، هذا يَحدُوُه والآخر يُذْكِيه ، فمعنى كل واحد منهما راجع إلى الآخر ، وليست الحضارات هي التي تَذْهبُ بالحسبِ وتقوِّض أركان النسب كما زعم ابن خلدون ، وإنما الأمر الذي ذكرنا وهو مُعَاقرة الفِعَال الخسيسة ، وإهمال النسب ونسيانه مع ما يحمله في فَقَرَاتِه من خلال حميدة لأمر من الأمور الكثيرة . ومن لم تدون سلسلة نسبه كما هو الغالب في البشرية ، فإن أخلاقه الحميدة وأفعاله الجميلة واستقامته على الدين القويم كل ذلك يشير إلى شرف نسبه وكريم حسبه رغم الجهل بسلسلة الآباء .
أما ثمراته كعلم من العلوم الآلية فهي :
1. صيانةُ الأنساب من الكذب والوضع .
2. حفظُ الأنساب مِن الضياع والاختلاط .
3. والاحترازُ به من الغلط في نَسَبِ شَخصٍ .
4. مُنَازَلَةُ الكذَّابِين والأدعياء والوضَّاعين ، وتفنيد موضوعاتهم ، وهدم مشاريعهم ، ومقارعتهم بالحجج والبراهين والدلائل ، وتبيين حالهم للناس .
5. دَرْءُ غواية الشعراء الذين يطعنون في أنساب الناس.
وفائدة علم النسب في مجال علم التاريخ History:
التاريخُ هو الزمان كما عرفه المؤرخون ، وسلسلة النسب هي تغيير يطرأ على الزمان في عدة أوقات منتظمة ومتتابعة ومنضبطة ، وشأن التاريخ ملاحظة ذلك التغيير الذي يطرأ عليه أثناء مسيرته ويؤثر بالتالي في حياة البشرية ، ويشكل النسبُ عنصراً مهماً في قَصِّ التاريخ ، وتوضيح الوقائع التاريخية ، حيث يمثل النسبُ والزمانُ معاً العمود الفقري لسرد المادة التاريخية ، أو بعبارة المؤرخين : يُشَكِلُ البشرُ والزمانُ نهر التاريخ . وطبقات سلسلة النسب أو أجيالها بمثابة دوحات غنية في مراحل طريق التاريخ وخط سير الزمان ، كتلك التي تستلهم الشاعر وتُهَيِّجُ شاعريته في مراحل حياته وتكوِّن له مادته الفكرية وتصقل قريحته، فمنزلٌ يُطْرِبه ، وآخر يُبَكِّيه ، وثالث يُغضبه .. ، والمؤرخون شبَّهوا التاريخ في سيره الطويل بالنهر ؛ ذلك لأن النهر يَتَّسِعُ مجراه ويضيق ، ويستقيم ويتعرَّج ، ويستوي وينحدر ، ويهدأ ويثور .. وهكذا التاريخ في أحداثه ووقائعه عبر خط سيره يتخذ أنماطاً سيكولوجية شتى ، وكذلك الأجيال التي تشكل سلسلة النسب لكل جيل سيكولوجيته الفردية .
فالنسب يسلسل المادة تسلسلاً زمنياً ، لأن ذات النسب مرتبٌ على تلك الطبقات الزمنية ، ولذا فإن ترتيبه للأحداث يكون بمثابة فلم سنمائي في سيناريو بارع ، هو الغاية في الموناتج والإخراج . إذن فهو يدرأ عن المؤرخ الصعوبة في ترتيب الأحداث التاريخية ؛ وفي الربط بين البيانات التاريخية ، لأن ترتيب هذه وربط تلك لا يحسنه إلا المؤرخ الفنان ؛ صاحب الذَّوق التاريخي ؛ والحِسِّ الأدبي ، والحَدَسِ المُرْهَفِ ، والضمير النَّزِيه ، وهذه الصفات قد لا تتوافر على كل مؤرخ ، فسلسلة النسب هي المادة التي تملأ الزمان بالأحداث والوقائع كما تشغل الصور الفراغ الذي في الفلم الخام.
كما أن التعريف بصاحب النسب ثمرة من ثمراته التاريخية ؛ فحينَ يُنسبُ شخصٌ إلى جَدِّهِ الأشهر منه فإنه يكون والحال هذه معرفةً بعد أن كان نكرةً لا يُعرف ، كما أنه حين ينسب إلى بلدةٍ يحصل له بهذه النسبة التعريف ، فلو قال لك شخصٌ : أنا زيد. فإنه لم يزدك معرفة بنفسه إلا معرفة نسبية ، بخلاف ما لو قال لك : أنا زيدٌ القرشيّ . أو قال لك : أنا زيد المكيّ . أو قال لك : أنا زيد التاجر .
وعلم النسب يقدم للمؤرخ البيانات الصحيحة المعتمدة التي يمكنها من أن تغير في مفهوم المعلومة التاريخية عند المؤرخ وتساعد في تفسير الحادثة تفسيراً واقعياً كما هو ، فالنتيجة النسبية أو الحكم النسبي التي تقول للمؤرخ : إن زياد بن أبيه لا يَمُتُّ بصلة نسب إلى قريش قط البتة قطعاً . تسوق المؤرخ إلى المهيعة الصحيحة والطريق الواضحة في تفسير الوقائع التاريخية التي أثَّر زياد بن سمية فيها . وكذا الحال في النتيجة النَّسَبِيَّة التي تقول له : إن صاحب الزنج إنما ينتسب إلى عبد القيس لا إلى العلويين . وهكذا دواليك .
وفائدته في الدراسات الأنثوبلوجية Anthropology :
متى اتخذه الأنثوبلوجيون كقاعة للدراسة فإنه سيعطي استقراءً كاملاً عن فلسفة الإنسانية ، وتصوراً واضحاً عن أصل الإنسان وأدوار وجوده ، وتوقعات نهايته ؛ بايولوجياً وسلوكياً ، وبالتالي تكون الاستنتاجات صحيحة ومتكاملة وواضحة بل ومفيدة لدى المثقف المستفيد ، لأننا لا نستطيع أن نعطي حكماً علي شيء قبل أن نحيط به علماً من جميع النواحي ، إذ أنَّ الحُكْمُ على الشيء فَرَعٌ عن تَصَوُّرِهِ .
وفائدته في الدراسات الاجتماعية السوسيولوجية Sociology :
يساعد الباحث الاجتماعي على تحديد الخصائص الاجتماعية التي تميز عَيِّنَة الدراسة في جميع النواحي العلمية والنفسية السيكولوجية Psychological والمهنية والخَلقية ، ويساعد للباحث الاجتماعي في حصر الجماعة التي اتخذها كَعَيِّنَة في إجراءاته البحثية فتصدق توقعاته في النتيجة وتكون أكثر قبولاً لدى المستفيدين منها ، بل وأنجع في تقويم المجتمع وإصلاحه .
ذلك بأن الاجتماعيين لا يدرسون الإنسان منعزلاً عن مجتمعه أو مجتثاً من أصله ، إذ إن كل من الفرد والمجتمع يدل على الآخر ويشير إليه ، ففهم العلاقات الاجتماعية لا تحصل بدراسة الأفراد في حال انعزال ، وإنما في حال تفاعله مع مجتمعه ، وسلسلة النسب مثلاً تشكل مع ثمرتها التي هو الفرد تفاعلاً اجتماعياً ومجتمعاً آخر يوجِّه سلوك الفرد الذي يتفاعل معه ويؤثر عليه تأثيراً بيِّناً ؛ لأنه جزء من نظامه ، والباحث الاجتماعي تهمه كل البيانات الإيجابية والسلبية التي يقدمها علم النسب عن سلالة معينة أو مجتمع معين على حدٍّ سواء ؛ لأنه يسعى للتنظير الاجتماعي في جميع مجالات علوم الاجتماع المختلفة .
وفائدته في الجغرافية Geography :
علم الأنساب يعرِّفُ الباحثَ في الجغرافية البَشَرِيَّة على كيفية تعامل البشر مع الطبيعة ، وعلى توزُّعِ الأجناس البشرية في الأقاليم والأماكن وأسبابه ونتائجه .
4/10 نِسْبة علم النسب
هو أحد العلوم الإنسانية والاجتماعية التي تتناول الإنسان بالدراسة المنهجية داخل مجتمعه ، وهو أحد العلوم التاريخية على وجه الخصوص ، فبينه وبين هذه العلوم نسبة العموم والخصوص ، ولذا فإن النسابة بينه وبين المؤرخ مثلاً نسبة عموم وخصوص.
5/10 فضل علم النسب
على أي حال كان فهو علم نافعٌ ؛ وصنعة فاضلة ؛ وصاحبه فاضلٌ ، جَدِيْرٌ بِالحَفَاوَةِ وَالتَكْرِيْمِ . وهو أفضل العلوم التاريخية ، حتى كاد أن يستقل عن علم التاريخ ، وفَضُلَ لأجل حفظه لأنساب الناس حتى سار بالتاريخ على المهيعة الصحيحة الواضحة.
وهو علم يدعو إلى التَفَكُّرِ في أصلِ النشأةِ ، وإلى الاعتبار بالقرون الخالية لذا هو داعية سلام ؛ يهذب النفس ، ويصفي القلب من الغل والحقد والحسد متى صادف قريحةً جيدةً ، فيتصفُ العالم به بمحبة الشعوب والتودد للبشرية كافة ، إلا أن من ساءت نفسه فقد تصيبه إحدى آفات هذا العلم وهي :
1. إما أن يتتبع به معايب الناس ، ويجمع به المثالب ، وهذا النوع يقال في صاحبه : عَيَّابة ، نسابةٌ لا ذِمَّة له.
2. وإما أن يتحول الذي يعاني من عقدة النقص إلى الشعوبية ؛ نسبة إلى الشعب ، أو يدعى نسباً ليس له ، وهذا يقال له نسابة دعي كذاب. والشعوبي هو الذي يصدار حكماً مسبقاً على الشعوب نصرةً للشعب الذي هو منه ، ويقال له : نسابة شُعُوبي .
3. وإما أن يصاب صاحب النسب بالعُجْبِ فيؤديه ذلك إلى ترك التَّحَلِّي بالفضائل ، أو إلى ترك التخلي عن الرذائل ، أو إلى التحلي بالرذائل والتخلي عن الفضائل ، وهذا اللئيم الرذيل .
ولذا فإن العلم أي علم لا يبذل إلا لأهله ، الذين صفت نِيَّاتُهم ، وكانوا أهلاً لحمله ؛ ولبذله ؛ وامتهانه كمهنة ، ولا يتعلم أحدٌ علماً أيّ علم كان إلا بعد اختبار ورياضة للنفس .
6/10 واضع علم النسب
أولاً: علم النسب من حيث أنه علم بروابط القرابة التي تكون بين فرد وفرد:
الواضع له إنما هي الشرائع ، حيث علَّم اللهُ آدم الأسماء كلها ، وبيَّن حقيقة تلك العلاقات التي للأقرباء ، وما يتعلق بها من أحكام ، وجعل لكل نوع ووصف من القرابة اسماً ، فسمَّى الوالدُ أباً ، والوالدةُ أمَّاً ، والصنو أخاً وأختاً ، والولد ابناً أو بنتاً ، وكذا كان الحال في الجَّدِ ، والجَدَّة ، والعَم ، والعمة ، والخال ، والخالة ، والحفدة .. بل حثت الشريعة على صلة تلك القرابات التي دعتها رحماً أيضاً ، فبينت طرائق وصلها وأوجه رعاية مصالحها. وكانت مسألة حِفظ النسب من مقاصد الشرائع ، ومن الضروريات الكليات الأمهات ، كما جعلت الشرائع لكل مسمى من الأقرباء حكماً في باب التركات ، وباب الأنكحة. وجعلت النسب أساس توزيع المواريث . وجاءت مسميات شتَّى في ألفاظ الشريعة للقرابة ، بعضها كان مجملاً محتاج للبيان، وهذه الألفاظ هي: الذُّرِّية ، والقربى ، والنسل ، والآل ، والأهل ، والعترة ، والعقب ، فكان ذلك تحريضاً للعقول كي تعمل .
وهذا كله نجده لدى أهل الشرائع المنزلة ، إذ نجد في العهد القديم تلك العناية البالغة بأنساب البشرية ، وأنساب الأنبياء ، وأنساب بني إسرائيل. وكان أحبار بني إسرائيل يشرحون تلك الأنساب ويُذَيِّلونها كلما استجدت بموازاة خط الزمان ، حتى أدرجت تلك الشروح والتذييلات في التوراة نفسها، فحُفظت بدخولها حرام كتاب الله على رغم ما ألحقت به من عَوَرٍ وعيب.
ثانياً: علم الأنساب من حيث أنه عِلمُ آلةٍ:
وهذا القسم من وَضْعِ الإنسان ، وضعه منذ أن أوجده الله ، أسوةً بغيره من العلوم الإنسانية التي وضعها الإنسان لما شعر بالحاجة إليها ؛ والحاجة أمُّ الاختراع ، فالحاجة والضرورة دعتا إلى وضعه. ذلك عندما احتاج الإنسان إلى تفهُّم مجتمعه ، واحتاج إلى معرفة الصلة التي بينه وبين مجتمعه كأفراد وجماعات ، بل وإلى معرفة أصله ونشأته وسر وجوده . كل ذلك كان بوازع الغريزة المُلِحّ ، فالإنسان مدني بالطبع ؛ محبٌ للاجتماع ؛ كَلِفٌ ببني جنسه ، فعلم النسب انعكاسٌ للمدنية ، ومرآةٌ للإنسانية ، وترجمانٌ لفلسفة العلاقات الاجتماعية ، يحُثُّه وَخْزُ الرَّحِمِ وتأنِيبُها من جهة ؛ ودغدغتها ولِذَّتها من جهة أخرى ، بل والمصلحة والمادة من جهة ثالثة.
وكان علم النسب قد بدأ بسيطاً نظراً لبساطة المجتمع الإنساني الأول. وحين كبر المجتمع الإنساني الأول ؛ وتعددت المجتمعات البشرية ، وبعدت الأنسابُ ؛ وشَعُثَ العِمْرانُ ؛ تبلورت حينئذ مفاهيم علم الأنساب ، فَقُنِّنَتْ له القوانين المُنَظِّمَة والمُلْزمِة ، وَسَنَّ له النسابون الضوابطَ والمصطلحاتِ والأساليب الفنية .
وكان الفضل الأكبر في الإسلام للنسابة محمد بن السائب الكلبي ت204ﻫ في تجديد هذا العلم لأهل الإسلام ، فكان إمام أهل النسب بلا منازع ، وصاحب أعظم وأثبت مدرسة في علم النسب في الإسلام ، وهو أول من قعَّد له القواعد في الإسلام ، وأصَّل له الأُصول ، وخطَّ له الخُطَطَ التي مشَى على رسمها كل مَن جاء بعده ، ولا يماري أحدٌ في أنهم كانوا عالةً عليه . ثم تتابع على ضبطه طوائف ثلاث:
1. العلماء بالشرعيات .
2. المؤرخون والأخباريون .
3. الأدباء والشعراء.
وقلَّما تجتمع هذه الأوصافُ في أحَدٍ من المشتغلين بالأنساب.
وكان من الضرورات التي دعت إلى سن الضوابط والقوانين وإلى حفظ النسب والتأليف فيه ؛ اختلاف الأديان والمذاهب ، والألوان ، واللغات ، فكل أحد أراد أن يذُبَّ عن حوضه ، ويحمي بيضته ، وكلٌ أراد أن يُشْخِصَ نفسه ، وأن يثبت وجوده ، ويفرض إرادته ، وهو ما يعَبَّر عنه بصراعِ الأيدلوجيات وصراع الحضارات .
7/10 اسم علم النسب
هو علم النسب ، أو علم الأنساب جينالوجيا Genealogy .
وبعض فلاسفة العلوم لا يجعلونه من العلوم وإنما يعدونه فناً من الفنون ، بل يعدونه قسماً من أقسام التاريخ إما علماً وإما فَنَّاً .
ويقال لمن يمتهنه : ناسِبٌ، ونَسَّابٌّ ، ونَسَّابةٌ ، والنسابة لا تقال لأي عالم به ، وإنما للبَلِيغ بعلمِ الأنساب ، والهاء فيه للمبالغة ؛ للاحترام والتعظيم ، ويقال لمن جمع معه الأخبار والقصص والتاريخ : أخباريَّ . أما القصَّاص فتقال لمن يَقُصُّ الأخبار والوقائع ثم يخلطها بالأساطير والأكاذيب والخرافات ، ولذلك فإنَّ قصص القرآن العظيم هي أحسن القصص لأنها لا تشتمل على الأساطير والخرافات ؛ ولأن الله تعالى يختار من القصص ما تحصل به العبرة والموعظة والفائدة .
8/10 استمداد علم النسب
هو علم يستمد من تاريخ الناس ، وأخبارهم ، ومن اجتماعهم ، وتناكحهم . ومصادر أخبار الناس كثيرة .
أولها : الكتب المقدسة المنزلة من عند الله وأحاديث الرسل عليهم السلام .
ثانيها : النصوص التاريخية . المدونة في الكتب ، والكتابات الأثرية ، والنقوش الحجرية ، الصكوك العدلية ، الشهادات البينة ، وعند الفقهاء وإن كانت الشهادة سماعية من عدول ، لأن الشهادة بالتسامع لا يُقرَّها الفقهاءُ إلا في النسب ، والموت ، والنكاح .
ثالثها : النصوص الأدبية ، من شعر ونثر .
9/10 حكم علم النسب
الحكم الأول : الفرض على العين .
فهو فرضٌ على كل عين ؛ إذا تعلمه الفردُ فإن الإثم يسقط عنه ولا يلحقه تأنيب الشريعة . إذ فرضٌ على كل إنسان أن يعرف قرابته ورحمه الذين يجب عليه أن يَصِلَهُم وَيَبَرَّهُم ؛ وأن يعلم الرابطة التي بينه وبينهم ، فإذن هو فرض عين لأجل الصِّلَةِ وَالموَدَّةِ .
كما يفترض عيناً معرفة نسب النبي صلى الله عليه وآله وسلم على وجه الجملة وإلا كان المسلم مُقَصِّراً ، ولكنه لا يَكْفُر خلافاً لابن حزم الظاهريِّ الذي كفرَّ بناءً على أصول مذهبه ، ومن عرف نسب النبي صلى الله عليه وآله وسلم على وجه التفصيل فهو صاحب فضل .
الحكم الثاني : الفرض على الكفاية . وهو يفترض على الكفاية في الأنساب البعيدة لأجل أن يكون في المجتمع مَن يَذُبُّ عن الأنساب دعاوى الكذَّابين ؛ وخرافاتِ القُصَّاصِ ؛ وأغراضَ الوضَّاعِين ، ويبين عَوَرَهَا ، ويفضح أهلها ، ويكون مُعَلِّماً له ، ناشراً لفضله ، ناصحاً لأهله . فإذا تعلمه من حصلت به الكفاية في تعلمه فإن الإثم يسقط عن المجتمع فلا يلحقه تأنيب الشريعة .
أما علم النسب الآلي فحكمه فرض على الكفاية . ولا يطالب كل أحدٍ بإتقانه والدراية به ، إلا مَن انفرد به أو توحَّد به في زمانه فإنه يتعين فرضاً عليه ، ومتى تعدد أهل الدراية به كان بينهم على الكفاية .
قال ملك بهوبال في أبجد العلوم : والعلوم التي هي فروض كفاية على المشهور: كل علم لا يُستغنى عنه في قوام أمر الدنيا وقانون الشرع ؛ كفهم الكتاب والسنة وحفظهما من التحريفات ، ومعرفة الاعتقاد بإقامة البرهان عليه وإزالة الشبهة ، ومعرفة الأوقات ، والفرائض والأحكام الفرعية ، وحفظ الأبدان ، والأخلاق ، والسياسة ، وكل ما يتوصل به إلى شيء من هذه كعلم اللغة والتصريف والنحو والمعاني والبيان . وكالمنطق ، وتسيير الكواكب ، ومعرفة الأنساب ، والحساب ، إلى غير ذلك من العلوم التي هي وسائل إلى هذه المقاصد . وتفاوت درجاتها في التأكيد بحسب الحاجة إليها .
الحكم الثالث : التحريم . وهو يَحْرُمُ ويكونُ مِن كبائرِ الذنوبِ متى كان قَصْدُ الإنسانِ مِن تَعلُمِه أن يتتبع به المثالبَ والعيوب ، أو لِمُجَرَّدِ التَّعالي واحتقار الناس وغَمْطِهم ، لأنَّه كِبْرٌ ؛ وهو من أعظم الذنوبِ ، وهذه الأخلاق الرذيلة التي تكون في بعض أشباه النسابين تُعَدُ جريمة دينية واجتماعية ، وتكون أغلظ متى قصد به الإضرار بالأقارب ؛ فهو عند الله قطيعة للرَّحم المعظَّمَة .
10/10 مسائل علم النسب
أما مسائله أي قضاياه التي تطلب نسب محمولاتها إلى موضوعاتها فهي :
1. حفظ الأنساب الصحيحة روايةً ودرايةً .
وحفظها بالرواية يكون :
أ*- بِضَبْطِهَا لفظاً ومعنى .
ب*- بِتَدْوِيْنِها بأصلح الأسلوبين ، إما البسط وإما التشجير ، أيهما كان له أتقن فإنه يتعين عليه التدوين به .
ت*- بِالأخذِ عن الثقاتِ ، والتَّحَمُلِ مِن الأثباتِ .
أما حفظها دِرَايةً فيكون :
أ*- بِالتَثَبُّتِ في رِوايتها .
ب*- بِالبحثِ في أحوالِ رُواتِها ، إتقاناً ، وضبطاً ، وعدالةً ، وسلامة من الغفلة .. وغير ذلك من الصفات المطلوبة ، أما الإسلام فلا يُشترط ، لأننا نصدق دعاوي أهل جميع الديانات في حكاية أنسابهم ولا نكذبهم ، وإنما لا نقبل من كان خبيثاً في دينه من أهل الديانات ، أي خبيث النفس ؛ سفيهاً ؛ فحَّاشاً ؛ عيَّاباً ؛ لا يَرْقَبُ في أحدٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً.
ت*- بِتطبيقِ مصطلحاتِ أهل الصَّنْعَة .
ث*- بِتَحْمِيل الأنساب مَن كان أهلاً لحملها مِن طلاب العلم ، وعدم بذل العلم للأوغادِ ؛ أو إجازة أصحاب المآرب والمشبوهين ، أو تكثير سواد الأدعياء وأشباه النسابين.
2. رد دعاوى الكذابين ؛ والقصاص ؛ والوضَّاعين ؛ والمغرضين ، وغواية الشعراء.
3. ضبط الأنساب بتبيين المتشابه في النِّسْبَة ، والمؤتلِف والمخْتَلِف ، المتفِق والمفترِق ..
4. الأنساب للبشر كالأسانيد للخبر ، فكما أن الإسناد يتبين به الخبر الموصول والمقطوع والمعضل والمعلق والصحيح والضعيف والموضوع ، فإن علم النسب يكون مثله في تبيين ذلك في الدعاوى النسبية على وجه العموم ، وَيَنْقُدُ النسابةُ كل ما يصله ولا يتقبل شيئاً إلا بعد نَقْدِهِ وإلا كان قَصَّاص .
5. ربط الأفراد ، والمجموعات ، والقبائل ، والشعوب بصلة النسب ، وهو ما يسمى بالتَّعْمِيد للفرد أو المجموعات .
6. خدمة العلوم الإنسانية ؛ كالتاريخ ، وعلم الاجتماع ، بتقديم المادة اللازمة الأساسية لحصول الغاية المرجوة من كل علم ، فعلم النسب علم مستقل ؛ له أصوله وقوانينه وضوابطه ، إلا أنه لا يمنع من أن يكون خادماً لعلوم أخرى ، لأن بين جميع العلوم روابط ؛ فكلها مبنية على بعضها البعض ، فهي من جهة تكون رئيسة ومن جهة أخرى تكون مرؤوسة .
لكل علم مباديء ، بها تتجسَّد مَعَالِمُه ، وتَشْخُصُ رُسُومُه ، وتُعرف ماهيته ، ويستبين حَدُّه ، وهذه المباديء جمعها العلامة الصَّبَّان في قوله :
إنَّ مَبَادِيَ كُلِّ فنٍّ عَشرهْ >>> الحدُّ ؛ والموضوعُ ؛ ثُمَّ الثَّمَرَهْ
ونِسْبَةٌ ؛ وفَضْلُهُ ؛ والواضِعْ>>> والاسمُ ؛ الاستمدادُ ؛ حكمُ الشارعْ
مسائلٌ ؛ والبعض ُبالبعضِ اكتفى ؛>>> ومن درى الجميعَ حازَ الشرفا
وقال أحمد المقري التلمساني :
مَــن رامَ فــنـًّا فــلْيــُقـــــدّمَ أولا ؛ >>> علماً بِحَدِّهِ ؛ وموضوعٍ تلا
وواضـــعٍ ؛ ونِسْـبة ؛ وما اســتمدّْ>>>منه ؛ وفضلِه ؛ وحُكْمٍ يُعتمـدْ
واســـمٍ ؛ ومــا أفـــادَ ؛ والـمسائل ؛ >>>فتلك عشرٌ للـمُـنى وسائلْ
وبعضُهم منها على البعض اقتصرْ >>>ومَن يكنِ يدري جميعَها انتصـرْ
ونحن نشرع في تبيين هذه المباديء العشرة في علم النسب ، لأننا لمسنا عدم وضوح معالمه لكثير من الناس حتى لأغلب الذين يخوضون فيه :
1/10 حَدُّ علم النسب
عِنْدَ الْتَّعْرِيْفِ بِمُصْطَلّحٍ مَرَكَّبٍ مِنْ كِلْمَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فَإِنَّهُ لَابُدَّ مِنْ تَعْرِيْفِ كُلِّ كَلِمَةٍ عَلَىَ انْفِرَادٍ ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَتِمُّ الْتَّعْرِيْفُ بِالْمُصْطَلَحَ كَمَا هُوَ فِيْ حَالِ الْتَّرْكِيْبِ . فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْرِيْفِ الْعِلْمِ وَحْدَهُ وَالْنَّسَبِ وَحْدَهُ أَوَّلَاً ، حَتَّىَ نَقِفُ عَلَىَ حَدِّ هَذَا الْعِلْمَ عَلَىَ الْوَجْهِ الْأَفْضَلِ.
فالعِلْمُ في اللغة مصدر علِم يعلم ، وهو خلاف الجهل ونقيضه ، وهو إدراك الشيء على ما هو عليه إدراكاً جازماً .
فالعلم هو: إدراك الشيء على حقيقته كما هي.
والوَهْمُ : إدراك الشيء على غير حقيقته.
والظَّنُ : إدراك الشيء على حقيقته مع احتمال مرجوح .
والشَّكُ: إدراك الشيء على حقيقته مع احتمالِ مساوٍ له .
هذه معاني هذه المفاهيم في منطق اللغات التي لابد من ذكرها عند التعريف بالعلم.
والعلم في الاصطلاح: مجموع مسائل وأصول كليّة تدور حول موضوع أو ظاهرة محددة ؛ وتعالج بمنهج معين ، وينتهي إلى النظريات والقوانين .
أو هو: منظومة من المعارف المتناسقة التي يعتمد في تحصيلها على المنهج علمي دون سواه.
والنَّسَبُ فِي اللُّغَةِ : مَصْدَرُ نَسَبَ ، يُقَال : نَسَبْتُهُ إِلَى أَبِيهِ نَسَبًا إذَ عَزَوْتُهُ إِلَيْهِ ، وَانْتَسَبَ إِلَيْهِ : اعْتَزَى . وَالاِسْمُ : النِّسْبَةُ بِالْكَسْرِ ، وَقَدْ تُضَمُّ . قَال ابنُ السِّكِّيتِ : يَكُونُ النَّسَبُ مِن قِبَل الأبِ وَمِن قِبَل الأمِّ . والذي قاله ابنُ السِّكِّيتِ هو الحق ، وأخطأ من اللغويين قال : هو من قِبَلِ الأبِ فقط . لأنَّ هذا تعريفه في الاصطِلاح لا في اللغة ، أما في اللغة فهو يشمل ما كان من جهة الأبِ وما كان من جهة الأم ، ولا فرق . وَليس بِجَيِّدٍ قول من قَال من الفقهاء : هُوَ الاِنْتِسَابُ لأَِبٍ مُعَيَّنٍ . لأنَّه تعريفٌ غيرُ جامعٍ ، إذ يلزم في بعض الحالات أن ينتسب الابن إلى أمه كما في اللعان ، وإن كانت الأم أحد الأبوين . ولا بدَّ في التعريف من أن يكون جامعاً لما يلزم ؛ مانعاً لما لا يلزم . كما أن لعلم المواريث مصطلحاته التي اصِطلحتها الشريعة لأجل الحكمة في توزيع التركات باعتبار الأحوج والأشد عَوَزَاً ، ولا يعني إخراج المحجوب وغير الوارث من الأقارب من حظيرة القرابة والنسب .
والنَّسِيْبُ هو : القريبُ الذي بينك وبينه رابطةُ نسبٍ . وأخطأ من عرَّف النسب لغة بأنه بمعنى القرابة رأساً .
أمَّا النَّسَبُ فِي الاِصْطِلاَحِ فقد عرفته الموسوعةُ الفقهيةُ الكويتيةُ بأنه: القَرَابَةُ وَهِيَ الاِتِّصَال بَينَ إِنسَانَيْنِ بِالاِشتِرَاكِ فِي وِلاَدَةٍ قَرِيبَةٍ أَوْ بَعِيدَةٍ .
وهذا تعريف للنَّسَبِ اصطلاحاً مِن حيثُ مَا هو نَسَبٌ فقط . وليس تعريفاً لعلم النسب من حيث ما هو علم للنسب ، وهو صالح لأن يكون تعريفاً للنسب في اصطلاح المؤرخين أيضاً ، والتعريف يشمل الولد والوالد ، وهو النسب العمودي ، من قِبَلِ الأب ومن قبل الأم ، ويشمل القرابة التي تكون أفقية لكل أجيال السلسلة كالإخوة والأعمام والأخوال .
وعُرِّف النسبُ أيضاً بأنه : الرابطة التي تكون بين الوالد والولد .
أما تعريف علم النسب مركباً في اصطلاح فلاسفة التاريخ ، فقد قالوا فيه : علم ، يُعْرَفُ مِنه أَنْسَابَ الناسِ ؛ وقواعِدَ الانتسابِ .
أو عرَّفوه بعبارة أخرى : علمٌ يُتعرَّفُ منه أنسابَ النَّاسِ ، وقواعِدَهُ الكُلِّيَّةِ وَالجُزْئِيَّةِ.
وخَصُّوُهُ بِالناسِ لأنَّ غالباً ما يُعني به أنساب الناس ، وإلا فإن للحيوان البهيم نسبٌ ، وقد ألَّفَ العلماء في أنساب الخيل مثلاً .
هذا التعريف متى نظرنا إليه كعلم له ضوابطه وقواعده وأصوله . ولكن بتعريفهم هذا يكونوا قد صنفوه ضمن العلوم الآلية أو العلوم المساعدة للعلوم الأساسية ، كما هو علم أصول الفقه بالنسبة للفقه ، ولذا فإن علم النسب ؛ علم له جانبان ، أولهما هو الجانب الأساسي ، ونقول في حَدِّهِ : علمٌ يُعرف به وَجْه رابطة القرابة التي بين شخص وآخر . أو العلم بوجه القرابة التي بين شخص وشخص ، أو بين جماعة وجماعة .
ومتى أردنا بالنسب خصوص تلك العلاقة التي بين الوالد والولد فإنا نقول في تعريف علم النسب : علمٌ يُعرف به وجه اتصال والدٍ وإنْ علا بولدٍ وإنْ نزل .
أو هو : علم يعرف به وجه اتصال أصل بفرع أو فرع بأصل .
هذا متى نظرنا إليه كعلمٍ بسيط مِن غيرِ دِرَايَةٍ بتلك القواعد والأصولِ. وفي الحقيقة ما دامت هذه حاله فإنه يفقد استقلاليته ويكون تابعاً لعلم التاريخ ، كعلم من بعض علومه ، والتاريخ قد عدَّه بعضُ الفلاسفة ضمن مقامات الفنون ولم يصنفوه ضمن مقامات العلوم. وعلى أي حال فإن هذا القسم من علم النسب هو الذي يستفيد منه كل وارد لمنهله ، وهو بمثابة مسائل علم الفقه بالنسبة لمسائل أصول الفقه.
أما الجانب الثاني الذي لعلم النسب ؛ فهو الجانب الآلي ، حيث أنه يُصَنَّفُ كعلمٍ مساعد للقسم السابق ، فمنه يُستفاد في تحصيل المَلَكَةِ لدى العالم بالنسب في اتخاذ الحُكم ، وتقرير نتيجة تَوَصَّل لها ، لأنه العلم الذي يتضمن المسائل الأصولية التي لعلم النسب والتي هي بمثابة مسائل علم أصول الفقه بالنسبة لمسائل الفقه . ومن أجل ذلك فإن بعض فلاسفة العلوم صنفوا هذا القسم كتصنيفهم لقسيمه ، وهذا القسم هو الذي يصدق فيه قولهم : علمٌ يُتعرَّفُ منه أنسابَ النَّاسِ ، وقواعِدَهُ الكُلِّيَّةِ وَالجُزْئِيَّةِ. وإنَّه لَكَذلك فإنه يجب أن نزيد في التعريف: ومعرفة حال المستفيد. لأن العلماء نَصُّوا على أوصاف للنسابة صاحب هذه الصنعة ، منها العدالة والصلاح والضبط والتثبت والقريحة الجيدة ..
أما عن كيفية الاستفادة من الأنساب فهذا متروك للباحثين في التاريخ والاجتماع وعلم الإنسان ، إذ كلٌ يستفيد منها بحسب ما تقتضيه تلك العلوم من تَصَوُّرٍ لمسائل النسب.
وإنما عرَّفْنَاه بقولنا : علمٌ يُعرف به وَجْه رابطة القرابة التي بين شخص وآخر . لأجل أن النسب ليس هو مجرد الرابطة التي تكون بين الوَالِدِ وإنْ عَلا والوَلَدِ وإنْ نزل ، وإنما هذه الرابطة تكون أيضاً بين المرء والأب وإن علا ، والابن وإن نزل ، والأخ وعقب الأخ ، والعم وعقب العم .
ولذا فإن النسب ينقسم إلى :
1. نَسَبٌ صُلْبِيٌّ : وهو الرابطة التي بين الوالد والولد . وهو يشمل نسب المرء الذي بينه وبين آباءه الذكور ، ونسبه الذي بينه وبين كل أنثى ولدته ، ولكن الناس اطمأنت نفوسهم لعُرْفِ الشرائع المنزلة منذ القدم ؛ وكان مقصدها ضبط معيشة الإنسان على حالٍ واحدة بها يكون حفظ الأنساب ؛ وصلاح المجتمعات ؛ وصون الأعراض .
2. نَسَبُ قَرَابَةٍ : وهم الإخوة وأولادهم والأخوات ، والأعمام في أي جيل كانوا وأولادهم والعمَّات . ومن أجل ذلك فإنه لما نزل قول الله تعالى : {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} نادى النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم في عموم قريش ، ولكنه رتَّبَ قبائلَ قريش أمامه على مراتبٍ كالشجرة ، شجرة النسب التي استوحى صورتها النسابون من هذا الترتيب ، فكان هو في أعلى فرع لها كالثمرة ، فرتبهم بحسب القرب والبعد النسبي الذي بينهم وبينه ، وهذا النوع من النسب يقال له : رَحِمٌ في الغالب ، وإنما قلنا : رحم في الغالب . لأن الرَّحم تشمل الولد والوالد أيضاً ، وهي تشمل كل قريب على الإطلاق ؛ ولذا فإنَّ الشريعةَ تلطَّفت معه في باب التركات لما لم يكن له فريضةٌ فيها ؛ فأبقتْ له مسمى القرابة بلفظ الرَّحِمِ ، ولم تَسْلَخْ عنه القُرْبَى ، فالرحيمُ في باب المواريث كُل قَرِيبٍ ليس ذَا فَرْضٍ مُقَدَّرٍ وَلاَ هو من العَصَبَة ، ونعرف معنى مدلول الكلمة متى عرفنا مراد المتكلم ، لأن الألفاظ ليست بذواتها وإنما على حسب مراد المتكلم ، ولذا فإن مراد الله تعالى من القربى في قوله {قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} لا تشمل كل قريش في كلام المحققين من أهل العلم ، وإنما هي في خصوص بني هاشم كما نصَّ عليه أهل العلم كما أفاده الشافعي في كتابه الأم .
أما أولاد البنات ، وأولاد الأخوات ، وأولاد العمات ، فكل أولئك قرابة أيضاً لا يُمارِي أحدٌ في ذلك ، ولكنهم قرابة دون التي في إطلاق عُرْفِ الناس ، وهي قرابة نَسَبٍ نِسْبِيٍّ أيضاً .
وبعض الفقهاء جعل للنسب قِسماً آخر دعاه بالعَصَبَةِ ، وفي الحقيقة أن العصبة ليسوا من أقسامه ولا من طبقاته ، وإنما من صفات أهله ؛ أو هي حَمِيَّة طبيعية تلازم كل طبقة من طبقاته ؛ وتتفاوت شدتها في كل طبقة بحسب قربها وبعدها من الفرد المَحْمِي ، فالمقصود بهم الذين يتعصَّبون للمرء لأجل القرابة التي بينه وبينهم ، وهذه العصبية على طبقات ومراتب كتلك التي شَكَّلها النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم أمامه وهو على الصفا ، فحال المرء مع العصبية التي له مع طبقات النسب تجعله بمثابة مركز دوائر تحيط به ؛ دائرة على إثر دائرة ..
أمَّا في اصطلاح النُّحَاةِ فقد عُرِّفَ النَّسَبُ بأنه : إلحاق الفروع بالأصول بياء مشددة في آخره . نحو : قُرَشِيٌّ ، عَنَزِيٌّ ، قِبْطِيٌّ . وهو تعريف غير جامع . والأفضل أن يقال فيه : هو عزو شيءٍ إلى والدٍ ، أو بلدٍ ، أو مهنة ، أو وصف، بياء مشددة في آخره ، مع كسر آخره. وقلنا في التعريف : شيءٍ ، حتى يشمل ذلك كل حيوان ؛ ونبات ؛ وجماد . وقلنا : والدٍ ؛ ليشمل الذكر والأنثى ، نحو : عَلَوِيٌّ في النسبة للذَّكر ، فَاطِمِيٌّ في النسبة للأنثى . والبلد : نحو رجل مِصْرِيٌّ ، للحي ؛ وثوبٌ حَضْرَمِيٌّ ، للجماد ؛ وزعفرانٌ خُرَسَانِيٌّ ، للنبات. والمهنة نحو : رجل اسْكَافِيٌّ . والوصف كقولنا : هذا حِمارٌ وَحْشِيٌّ ، نسبةً إلى الوَحْشِ.
2/10 موضوع علم النسب
أشخاص الآدميين من حيث انتماءهم إلى أصل يُعْزَوْن إليه ، فينتسبون إليه إما وِلادَةً ، أو وَلاَءً ، أو حِلْفاً .
فموضوع هذا العلم البحث في هذه النِسْبَة من حيث الرواية أو الدراية ، أو الرواية والدراية معاً. وفي الأسماء مفردةً أو مضافة لاسم أو سلسلة أسماء برابطة قرابة ؛ فيَبْحَثُ في ضبط هذه الأسماء مفردةً أو متصلةً تَحسُّبَاً لأيِّ عَارِضٍ ، ضَبْطٌ في نُطْقِهَا ، وضبطٌ في عَزْوِها لأصلها ، ويبحث في حال تلك السلاسل ، أي في تشَعُّبِها ، وفي القُرْبِ والبُعْدِ درجةً وكيفيةً ؛ وفي الطَّرِيف والقَعْدُدِ ، وفي الاتصال والانقطاع ، كما يبحث في حال مصادر تحصيل الأنساب ، وغير ذلك من المسائل التي قد تناولها العلماء ونَهَّجُوا لتبيينها المناهج التي أملتها عليهم طبيعة مباحثاتهم لعلم النسب والاستفادة منه. فللمؤرِخِين مناهجهم ، وللمُحَدِّثِين مناهجهم ، وللباحثين الاجتماعيين مناهجهم ، ولِلُغَويين مناهجهم .. ومتى كان العالم بالأنساب على دراية بعلم آليته كلما كان أوفق لتفهم موضوعاته والاستفادة منه والإفادة لغيره .
وقلنا : إن موضوعه أنساب الآدميين على وجه العموم ، ويمكن أن يشمل نسب كل مُحْدَثٍ نَامِي ، واستعمل في الغالب في تدوين ودراسة أنساب الإنسان.
وإنما قلنا على وجه العموم ، فلأجل أن الغالب أن يتناول العالم بالنسب بالدراسة النسب الشرعي الناتج عن نكاح أو استيلاد وإن اختلفت الأديان ، وفي النادر من يدرس أنساب اللقطاء وأولاد السفاح واللعان ، وهؤلاء يُدعون عند النسابين الغربيين بالأولاد الغير شرعيين ، وكان منهم بعض ملوكهم وعظماءهم . والمراد بالمحدث ؛ كل ما كان سوى الله تعالى ، فكلمة محدث تشمل كل ما هو مخلوق . والمراد بكلمة النامي ؛ كل ما كان النمو من طبعه ؛ وهو الحيوان والنبات.
3/10 ثمرة علم النسب
لعلم الأنساب فوائد وثمرات كثيرة ، وتختلف هذه الثمرات والغايات مع اختلاف العلم الذي يُقَارِنه ويتأثَّر به من العلوم التي تستفيد من بياناته وتعتمد على نظرياته وفلسفته .
وهو في الغالب يكون مقترناً مع سرد الوقائع التاريخية ، لأنه وإن كان لعلم النسب شُبْهَةُ استقلال ، إلا أن بينه وبين علم التاريخ عمومٌ وخصوصٌ من وجه كغيره من العلوم الإنسانية والاجتماعية التي تأثر في بعضها وتتأثر ببعضها ، ويجب ملاحظة أن كل علم يكون مستقلاً في حد ذاته ، أما بالإضافة إلى العلوم الأخرى فإن بعض العلوم تفقد الاستقلالية وتكون من العلوم الآلية أو المساعدة في تحصيل العلم المطلوب ، كعلم النحو العربي ، هو علم مستقل ، ولكن بإضافته إلى العلوم الشرعية فإنه يعد من العلوم الآلية .
ففائدة علم النسب في مجال علم النسب المحض Genealogy:
أما ثمراته هنا فكثيرة لا سيما متى نظرنا إليه من غير وجهته الآلية ، وقد بيَّن بعضَها كثيرٌ من الباحثين فيه ، المُجَدِّدِيْنَ لِحُلتِه ؛ والتي تنضوي كلها تحت إحساس الإنسان بالحيوية في تفاعله وتعامله مع مجتمعه ، وشعوره بالمسؤولية والجِدِّيَّة في التعايش ، وتُشْبع نفسه بالمحبة للمجتمع والألفة مما ينتج عن ذلك التماسك بين مُكوناتٍ المجتمع ، والتكامل والتكافل بين أفراده ، وتحصل لدى الفرد العصبية الواجبة لأجل النُّعرة والتَّناصر ، فحيث تكون العصبية مرهوبة ومخشيَّة ، والمنبت فيها زكيٌّ محميُّ تكون فائدة النسب أوضح ، وثمرتها أقوى ، فمعرفة النسب وتعدد الآباء وذكر مآثرهم وخلالهم الحميدة وهو الحسب كلاهما عصمة للنفس من ركوب الآثام وتلقُّفها ، لأن لكل إنسان جانبان اثنان ، جانب مادي وهو النَسَبُ وهو سلسلة أسماء آباءه وأمهاته ، وجانب رُوحي وهو الحَسَبُ ، وهو سلسلة مآثر آباءه وأمهاته ، فالحسب يسير مع النسب حذو القُذَّة بالقُذَّة ، هذا يَحدُوُه والآخر يُذْكِيه ، فمعنى كل واحد منهما راجع إلى الآخر ، وليست الحضارات هي التي تَذْهبُ بالحسبِ وتقوِّض أركان النسب كما زعم ابن خلدون ، وإنما الأمر الذي ذكرنا وهو مُعَاقرة الفِعَال الخسيسة ، وإهمال النسب ونسيانه مع ما يحمله في فَقَرَاتِه من خلال حميدة لأمر من الأمور الكثيرة . ومن لم تدون سلسلة نسبه كما هو الغالب في البشرية ، فإن أخلاقه الحميدة وأفعاله الجميلة واستقامته على الدين القويم كل ذلك يشير إلى شرف نسبه وكريم حسبه رغم الجهل بسلسلة الآباء .
أما ثمراته كعلم من العلوم الآلية فهي :
1. صيانةُ الأنساب من الكذب والوضع .
2. حفظُ الأنساب مِن الضياع والاختلاط .
3. والاحترازُ به من الغلط في نَسَبِ شَخصٍ .
4. مُنَازَلَةُ الكذَّابِين والأدعياء والوضَّاعين ، وتفنيد موضوعاتهم ، وهدم مشاريعهم ، ومقارعتهم بالحجج والبراهين والدلائل ، وتبيين حالهم للناس .
5. دَرْءُ غواية الشعراء الذين يطعنون في أنساب الناس.
وفائدة علم النسب في مجال علم التاريخ History:
التاريخُ هو الزمان كما عرفه المؤرخون ، وسلسلة النسب هي تغيير يطرأ على الزمان في عدة أوقات منتظمة ومتتابعة ومنضبطة ، وشأن التاريخ ملاحظة ذلك التغيير الذي يطرأ عليه أثناء مسيرته ويؤثر بالتالي في حياة البشرية ، ويشكل النسبُ عنصراً مهماً في قَصِّ التاريخ ، وتوضيح الوقائع التاريخية ، حيث يمثل النسبُ والزمانُ معاً العمود الفقري لسرد المادة التاريخية ، أو بعبارة المؤرخين : يُشَكِلُ البشرُ والزمانُ نهر التاريخ . وطبقات سلسلة النسب أو أجيالها بمثابة دوحات غنية في مراحل طريق التاريخ وخط سير الزمان ، كتلك التي تستلهم الشاعر وتُهَيِّجُ شاعريته في مراحل حياته وتكوِّن له مادته الفكرية وتصقل قريحته، فمنزلٌ يُطْرِبه ، وآخر يُبَكِّيه ، وثالث يُغضبه .. ، والمؤرخون شبَّهوا التاريخ في سيره الطويل بالنهر ؛ ذلك لأن النهر يَتَّسِعُ مجراه ويضيق ، ويستقيم ويتعرَّج ، ويستوي وينحدر ، ويهدأ ويثور .. وهكذا التاريخ في أحداثه ووقائعه عبر خط سيره يتخذ أنماطاً سيكولوجية شتى ، وكذلك الأجيال التي تشكل سلسلة النسب لكل جيل سيكولوجيته الفردية .
فالنسب يسلسل المادة تسلسلاً زمنياً ، لأن ذات النسب مرتبٌ على تلك الطبقات الزمنية ، ولذا فإن ترتيبه للأحداث يكون بمثابة فلم سنمائي في سيناريو بارع ، هو الغاية في الموناتج والإخراج . إذن فهو يدرأ عن المؤرخ الصعوبة في ترتيب الأحداث التاريخية ؛ وفي الربط بين البيانات التاريخية ، لأن ترتيب هذه وربط تلك لا يحسنه إلا المؤرخ الفنان ؛ صاحب الذَّوق التاريخي ؛ والحِسِّ الأدبي ، والحَدَسِ المُرْهَفِ ، والضمير النَّزِيه ، وهذه الصفات قد لا تتوافر على كل مؤرخ ، فسلسلة النسب هي المادة التي تملأ الزمان بالأحداث والوقائع كما تشغل الصور الفراغ الذي في الفلم الخام.
كما أن التعريف بصاحب النسب ثمرة من ثمراته التاريخية ؛ فحينَ يُنسبُ شخصٌ إلى جَدِّهِ الأشهر منه فإنه يكون والحال هذه معرفةً بعد أن كان نكرةً لا يُعرف ، كما أنه حين ينسب إلى بلدةٍ يحصل له بهذه النسبة التعريف ، فلو قال لك شخصٌ : أنا زيد. فإنه لم يزدك معرفة بنفسه إلا معرفة نسبية ، بخلاف ما لو قال لك : أنا زيدٌ القرشيّ . أو قال لك : أنا زيد المكيّ . أو قال لك : أنا زيد التاجر .
وعلم النسب يقدم للمؤرخ البيانات الصحيحة المعتمدة التي يمكنها من أن تغير في مفهوم المعلومة التاريخية عند المؤرخ وتساعد في تفسير الحادثة تفسيراً واقعياً كما هو ، فالنتيجة النسبية أو الحكم النسبي التي تقول للمؤرخ : إن زياد بن أبيه لا يَمُتُّ بصلة نسب إلى قريش قط البتة قطعاً . تسوق المؤرخ إلى المهيعة الصحيحة والطريق الواضحة في تفسير الوقائع التاريخية التي أثَّر زياد بن سمية فيها . وكذا الحال في النتيجة النَّسَبِيَّة التي تقول له : إن صاحب الزنج إنما ينتسب إلى عبد القيس لا إلى العلويين . وهكذا دواليك .
وفائدته في الدراسات الأنثوبلوجية Anthropology :
متى اتخذه الأنثوبلوجيون كقاعة للدراسة فإنه سيعطي استقراءً كاملاً عن فلسفة الإنسانية ، وتصوراً واضحاً عن أصل الإنسان وأدوار وجوده ، وتوقعات نهايته ؛ بايولوجياً وسلوكياً ، وبالتالي تكون الاستنتاجات صحيحة ومتكاملة وواضحة بل ومفيدة لدى المثقف المستفيد ، لأننا لا نستطيع أن نعطي حكماً علي شيء قبل أن نحيط به علماً من جميع النواحي ، إذ أنَّ الحُكْمُ على الشيء فَرَعٌ عن تَصَوُّرِهِ .
وفائدته في الدراسات الاجتماعية السوسيولوجية Sociology :
يساعد الباحث الاجتماعي على تحديد الخصائص الاجتماعية التي تميز عَيِّنَة الدراسة في جميع النواحي العلمية والنفسية السيكولوجية Psychological والمهنية والخَلقية ، ويساعد للباحث الاجتماعي في حصر الجماعة التي اتخذها كَعَيِّنَة في إجراءاته البحثية فتصدق توقعاته في النتيجة وتكون أكثر قبولاً لدى المستفيدين منها ، بل وأنجع في تقويم المجتمع وإصلاحه .
ذلك بأن الاجتماعيين لا يدرسون الإنسان منعزلاً عن مجتمعه أو مجتثاً من أصله ، إذ إن كل من الفرد والمجتمع يدل على الآخر ويشير إليه ، ففهم العلاقات الاجتماعية لا تحصل بدراسة الأفراد في حال انعزال ، وإنما في حال تفاعله مع مجتمعه ، وسلسلة النسب مثلاً تشكل مع ثمرتها التي هو الفرد تفاعلاً اجتماعياً ومجتمعاً آخر يوجِّه سلوك الفرد الذي يتفاعل معه ويؤثر عليه تأثيراً بيِّناً ؛ لأنه جزء من نظامه ، والباحث الاجتماعي تهمه كل البيانات الإيجابية والسلبية التي يقدمها علم النسب عن سلالة معينة أو مجتمع معين على حدٍّ سواء ؛ لأنه يسعى للتنظير الاجتماعي في جميع مجالات علوم الاجتماع المختلفة .
وفائدته في الجغرافية Geography :
علم الأنساب يعرِّفُ الباحثَ في الجغرافية البَشَرِيَّة على كيفية تعامل البشر مع الطبيعة ، وعلى توزُّعِ الأجناس البشرية في الأقاليم والأماكن وأسبابه ونتائجه .
4/10 نِسْبة علم النسب
هو أحد العلوم الإنسانية والاجتماعية التي تتناول الإنسان بالدراسة المنهجية داخل مجتمعه ، وهو أحد العلوم التاريخية على وجه الخصوص ، فبينه وبين هذه العلوم نسبة العموم والخصوص ، ولذا فإن النسابة بينه وبين المؤرخ مثلاً نسبة عموم وخصوص.
5/10 فضل علم النسب
على أي حال كان فهو علم نافعٌ ؛ وصنعة فاضلة ؛ وصاحبه فاضلٌ ، جَدِيْرٌ بِالحَفَاوَةِ وَالتَكْرِيْمِ . وهو أفضل العلوم التاريخية ، حتى كاد أن يستقل عن علم التاريخ ، وفَضُلَ لأجل حفظه لأنساب الناس حتى سار بالتاريخ على المهيعة الصحيحة الواضحة.
وهو علم يدعو إلى التَفَكُّرِ في أصلِ النشأةِ ، وإلى الاعتبار بالقرون الخالية لذا هو داعية سلام ؛ يهذب النفس ، ويصفي القلب من الغل والحقد والحسد متى صادف قريحةً جيدةً ، فيتصفُ العالم به بمحبة الشعوب والتودد للبشرية كافة ، إلا أن من ساءت نفسه فقد تصيبه إحدى آفات هذا العلم وهي :
1. إما أن يتتبع به معايب الناس ، ويجمع به المثالب ، وهذا النوع يقال في صاحبه : عَيَّابة ، نسابةٌ لا ذِمَّة له.
2. وإما أن يتحول الذي يعاني من عقدة النقص إلى الشعوبية ؛ نسبة إلى الشعب ، أو يدعى نسباً ليس له ، وهذا يقال له نسابة دعي كذاب. والشعوبي هو الذي يصدار حكماً مسبقاً على الشعوب نصرةً للشعب الذي هو منه ، ويقال له : نسابة شُعُوبي .
3. وإما أن يصاب صاحب النسب بالعُجْبِ فيؤديه ذلك إلى ترك التَّحَلِّي بالفضائل ، أو إلى ترك التخلي عن الرذائل ، أو إلى التحلي بالرذائل والتخلي عن الفضائل ، وهذا اللئيم الرذيل .
ولذا فإن العلم أي علم لا يبذل إلا لأهله ، الذين صفت نِيَّاتُهم ، وكانوا أهلاً لحمله ؛ ولبذله ؛ وامتهانه كمهنة ، ولا يتعلم أحدٌ علماً أيّ علم كان إلا بعد اختبار ورياضة للنفس .
6/10 واضع علم النسب
أولاً: علم النسب من حيث أنه علم بروابط القرابة التي تكون بين فرد وفرد:
الواضع له إنما هي الشرائع ، حيث علَّم اللهُ آدم الأسماء كلها ، وبيَّن حقيقة تلك العلاقات التي للأقرباء ، وما يتعلق بها من أحكام ، وجعل لكل نوع ووصف من القرابة اسماً ، فسمَّى الوالدُ أباً ، والوالدةُ أمَّاً ، والصنو أخاً وأختاً ، والولد ابناً أو بنتاً ، وكذا كان الحال في الجَّدِ ، والجَدَّة ، والعَم ، والعمة ، والخال ، والخالة ، والحفدة .. بل حثت الشريعة على صلة تلك القرابات التي دعتها رحماً أيضاً ، فبينت طرائق وصلها وأوجه رعاية مصالحها. وكانت مسألة حِفظ النسب من مقاصد الشرائع ، ومن الضروريات الكليات الأمهات ، كما جعلت الشرائع لكل مسمى من الأقرباء حكماً في باب التركات ، وباب الأنكحة. وجعلت النسب أساس توزيع المواريث . وجاءت مسميات شتَّى في ألفاظ الشريعة للقرابة ، بعضها كان مجملاً محتاج للبيان، وهذه الألفاظ هي: الذُّرِّية ، والقربى ، والنسل ، والآل ، والأهل ، والعترة ، والعقب ، فكان ذلك تحريضاً للعقول كي تعمل .
وهذا كله نجده لدى أهل الشرائع المنزلة ، إذ نجد في العهد القديم تلك العناية البالغة بأنساب البشرية ، وأنساب الأنبياء ، وأنساب بني إسرائيل. وكان أحبار بني إسرائيل يشرحون تلك الأنساب ويُذَيِّلونها كلما استجدت بموازاة خط الزمان ، حتى أدرجت تلك الشروح والتذييلات في التوراة نفسها، فحُفظت بدخولها حرام كتاب الله على رغم ما ألحقت به من عَوَرٍ وعيب.
ثانياً: علم الأنساب من حيث أنه عِلمُ آلةٍ:
وهذا القسم من وَضْعِ الإنسان ، وضعه منذ أن أوجده الله ، أسوةً بغيره من العلوم الإنسانية التي وضعها الإنسان لما شعر بالحاجة إليها ؛ والحاجة أمُّ الاختراع ، فالحاجة والضرورة دعتا إلى وضعه. ذلك عندما احتاج الإنسان إلى تفهُّم مجتمعه ، واحتاج إلى معرفة الصلة التي بينه وبين مجتمعه كأفراد وجماعات ، بل وإلى معرفة أصله ونشأته وسر وجوده . كل ذلك كان بوازع الغريزة المُلِحّ ، فالإنسان مدني بالطبع ؛ محبٌ للاجتماع ؛ كَلِفٌ ببني جنسه ، فعلم النسب انعكاسٌ للمدنية ، ومرآةٌ للإنسانية ، وترجمانٌ لفلسفة العلاقات الاجتماعية ، يحُثُّه وَخْزُ الرَّحِمِ وتأنِيبُها من جهة ؛ ودغدغتها ولِذَّتها من جهة أخرى ، بل والمصلحة والمادة من جهة ثالثة.
وكان علم النسب قد بدأ بسيطاً نظراً لبساطة المجتمع الإنساني الأول. وحين كبر المجتمع الإنساني الأول ؛ وتعددت المجتمعات البشرية ، وبعدت الأنسابُ ؛ وشَعُثَ العِمْرانُ ؛ تبلورت حينئذ مفاهيم علم الأنساب ، فَقُنِّنَتْ له القوانين المُنَظِّمَة والمُلْزمِة ، وَسَنَّ له النسابون الضوابطَ والمصطلحاتِ والأساليب الفنية .
وكان الفضل الأكبر في الإسلام للنسابة محمد بن السائب الكلبي ت204ﻫ في تجديد هذا العلم لأهل الإسلام ، فكان إمام أهل النسب بلا منازع ، وصاحب أعظم وأثبت مدرسة في علم النسب في الإسلام ، وهو أول من قعَّد له القواعد في الإسلام ، وأصَّل له الأُصول ، وخطَّ له الخُطَطَ التي مشَى على رسمها كل مَن جاء بعده ، ولا يماري أحدٌ في أنهم كانوا عالةً عليه . ثم تتابع على ضبطه طوائف ثلاث:
1. العلماء بالشرعيات .
2. المؤرخون والأخباريون .
3. الأدباء والشعراء.
وقلَّما تجتمع هذه الأوصافُ في أحَدٍ من المشتغلين بالأنساب.
وكان من الضرورات التي دعت إلى سن الضوابط والقوانين وإلى حفظ النسب والتأليف فيه ؛ اختلاف الأديان والمذاهب ، والألوان ، واللغات ، فكل أحد أراد أن يذُبَّ عن حوضه ، ويحمي بيضته ، وكلٌ أراد أن يُشْخِصَ نفسه ، وأن يثبت وجوده ، ويفرض إرادته ، وهو ما يعَبَّر عنه بصراعِ الأيدلوجيات وصراع الحضارات .
7/10 اسم علم النسب
هو علم النسب ، أو علم الأنساب جينالوجيا Genealogy .
وبعض فلاسفة العلوم لا يجعلونه من العلوم وإنما يعدونه فناً من الفنون ، بل يعدونه قسماً من أقسام التاريخ إما علماً وإما فَنَّاً .
ويقال لمن يمتهنه : ناسِبٌ، ونَسَّابٌّ ، ونَسَّابةٌ ، والنسابة لا تقال لأي عالم به ، وإنما للبَلِيغ بعلمِ الأنساب ، والهاء فيه للمبالغة ؛ للاحترام والتعظيم ، ويقال لمن جمع معه الأخبار والقصص والتاريخ : أخباريَّ . أما القصَّاص فتقال لمن يَقُصُّ الأخبار والوقائع ثم يخلطها بالأساطير والأكاذيب والخرافات ، ولذلك فإنَّ قصص القرآن العظيم هي أحسن القصص لأنها لا تشتمل على الأساطير والخرافات ؛ ولأن الله تعالى يختار من القصص ما تحصل به العبرة والموعظة والفائدة .
8/10 استمداد علم النسب
هو علم يستمد من تاريخ الناس ، وأخبارهم ، ومن اجتماعهم ، وتناكحهم . ومصادر أخبار الناس كثيرة .
أولها : الكتب المقدسة المنزلة من عند الله وأحاديث الرسل عليهم السلام .
ثانيها : النصوص التاريخية . المدونة في الكتب ، والكتابات الأثرية ، والنقوش الحجرية ، الصكوك العدلية ، الشهادات البينة ، وعند الفقهاء وإن كانت الشهادة سماعية من عدول ، لأن الشهادة بالتسامع لا يُقرَّها الفقهاءُ إلا في النسب ، والموت ، والنكاح .
ثالثها : النصوص الأدبية ، من شعر ونثر .
9/10 حكم علم النسب
الحكم الأول : الفرض على العين .
فهو فرضٌ على كل عين ؛ إذا تعلمه الفردُ فإن الإثم يسقط عنه ولا يلحقه تأنيب الشريعة . إذ فرضٌ على كل إنسان أن يعرف قرابته ورحمه الذين يجب عليه أن يَصِلَهُم وَيَبَرَّهُم ؛ وأن يعلم الرابطة التي بينه وبينهم ، فإذن هو فرض عين لأجل الصِّلَةِ وَالموَدَّةِ .
كما يفترض عيناً معرفة نسب النبي صلى الله عليه وآله وسلم على وجه الجملة وإلا كان المسلم مُقَصِّراً ، ولكنه لا يَكْفُر خلافاً لابن حزم الظاهريِّ الذي كفرَّ بناءً على أصول مذهبه ، ومن عرف نسب النبي صلى الله عليه وآله وسلم على وجه التفصيل فهو صاحب فضل .
الحكم الثاني : الفرض على الكفاية . وهو يفترض على الكفاية في الأنساب البعيدة لأجل أن يكون في المجتمع مَن يَذُبُّ عن الأنساب دعاوى الكذَّابين ؛ وخرافاتِ القُصَّاصِ ؛ وأغراضَ الوضَّاعِين ، ويبين عَوَرَهَا ، ويفضح أهلها ، ويكون مُعَلِّماً له ، ناشراً لفضله ، ناصحاً لأهله . فإذا تعلمه من حصلت به الكفاية في تعلمه فإن الإثم يسقط عن المجتمع فلا يلحقه تأنيب الشريعة .
أما علم النسب الآلي فحكمه فرض على الكفاية . ولا يطالب كل أحدٍ بإتقانه والدراية به ، إلا مَن انفرد به أو توحَّد به في زمانه فإنه يتعين فرضاً عليه ، ومتى تعدد أهل الدراية به كان بينهم على الكفاية .
قال ملك بهوبال في أبجد العلوم : والعلوم التي هي فروض كفاية على المشهور: كل علم لا يُستغنى عنه في قوام أمر الدنيا وقانون الشرع ؛ كفهم الكتاب والسنة وحفظهما من التحريفات ، ومعرفة الاعتقاد بإقامة البرهان عليه وإزالة الشبهة ، ومعرفة الأوقات ، والفرائض والأحكام الفرعية ، وحفظ الأبدان ، والأخلاق ، والسياسة ، وكل ما يتوصل به إلى شيء من هذه كعلم اللغة والتصريف والنحو والمعاني والبيان . وكالمنطق ، وتسيير الكواكب ، ومعرفة الأنساب ، والحساب ، إلى غير ذلك من العلوم التي هي وسائل إلى هذه المقاصد . وتفاوت درجاتها في التأكيد بحسب الحاجة إليها .
الحكم الثالث : التحريم . وهو يَحْرُمُ ويكونُ مِن كبائرِ الذنوبِ متى كان قَصْدُ الإنسانِ مِن تَعلُمِه أن يتتبع به المثالبَ والعيوب ، أو لِمُجَرَّدِ التَّعالي واحتقار الناس وغَمْطِهم ، لأنَّه كِبْرٌ ؛ وهو من أعظم الذنوبِ ، وهذه الأخلاق الرذيلة التي تكون في بعض أشباه النسابين تُعَدُ جريمة دينية واجتماعية ، وتكون أغلظ متى قصد به الإضرار بالأقارب ؛ فهو عند الله قطيعة للرَّحم المعظَّمَة .
10/10 مسائل علم النسب
أما مسائله أي قضاياه التي تطلب نسب محمولاتها إلى موضوعاتها فهي :
1. حفظ الأنساب الصحيحة روايةً ودرايةً .
وحفظها بالرواية يكون :
أ*- بِضَبْطِهَا لفظاً ومعنى .
ب*- بِتَدْوِيْنِها بأصلح الأسلوبين ، إما البسط وإما التشجير ، أيهما كان له أتقن فإنه يتعين عليه التدوين به .
ت*- بِالأخذِ عن الثقاتِ ، والتَّحَمُلِ مِن الأثباتِ .
أما حفظها دِرَايةً فيكون :
أ*- بِالتَثَبُّتِ في رِوايتها .
ب*- بِالبحثِ في أحوالِ رُواتِها ، إتقاناً ، وضبطاً ، وعدالةً ، وسلامة من الغفلة .. وغير ذلك من الصفات المطلوبة ، أما الإسلام فلا يُشترط ، لأننا نصدق دعاوي أهل جميع الديانات في حكاية أنسابهم ولا نكذبهم ، وإنما لا نقبل من كان خبيثاً في دينه من أهل الديانات ، أي خبيث النفس ؛ سفيهاً ؛ فحَّاشاً ؛ عيَّاباً ؛ لا يَرْقَبُ في أحدٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً.
ت*- بِتطبيقِ مصطلحاتِ أهل الصَّنْعَة .
ث*- بِتَحْمِيل الأنساب مَن كان أهلاً لحملها مِن طلاب العلم ، وعدم بذل العلم للأوغادِ ؛ أو إجازة أصحاب المآرب والمشبوهين ، أو تكثير سواد الأدعياء وأشباه النسابين.
2. رد دعاوى الكذابين ؛ والقصاص ؛ والوضَّاعين ؛ والمغرضين ، وغواية الشعراء.
3. ضبط الأنساب بتبيين المتشابه في النِّسْبَة ، والمؤتلِف والمخْتَلِف ، المتفِق والمفترِق ..
4. الأنساب للبشر كالأسانيد للخبر ، فكما أن الإسناد يتبين به الخبر الموصول والمقطوع والمعضل والمعلق والصحيح والضعيف والموضوع ، فإن علم النسب يكون مثله في تبيين ذلك في الدعاوى النسبية على وجه العموم ، وَيَنْقُدُ النسابةُ كل ما يصله ولا يتقبل شيئاً إلا بعد نَقْدِهِ وإلا كان قَصَّاص .
5. ربط الأفراد ، والمجموعات ، والقبائل ، والشعوب بصلة النسب ، وهو ما يسمى بالتَّعْمِيد للفرد أو المجموعات .
6. خدمة العلوم الإنسانية ؛ كالتاريخ ، وعلم الاجتماع ، بتقديم المادة اللازمة الأساسية لحصول الغاية المرجوة من كل علم ، فعلم النسب علم مستقل ؛ له أصوله وقوانينه وضوابطه ، إلا أنه لا يمنع من أن يكون خادماً لعلوم أخرى ، لأن بين جميع العلوم روابط ؛ فكلها مبنية على بعضها البعض ، فهي من جهة تكون رئيسة ومن جهة أخرى تكون مرؤوسة .
مواضيع مماثلة
» حرمة آل بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
» منظومات علمية للشيخ حافظ بن أحمد الحكمي -رحمه الله-
» قصيدة في رثاء الفقيه سيدي الحاج محمد بن العربي اليعقوبي الهلالي رحمه الله.
» سلسلة الصلاة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (الدرس الأول)
» نبذة عن ذرية سيدنا عبد الله بن جعفر بن ابي طالب رضي الله عنه
» منظومات علمية للشيخ حافظ بن أحمد الحكمي -رحمه الله-
» قصيدة في رثاء الفقيه سيدي الحاج محمد بن العربي اليعقوبي الهلالي رحمه الله.
» سلسلة الصلاة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (الدرس الأول)
» نبذة عن ذرية سيدنا عبد الله بن جعفر بن ابي طالب رضي الله عنه
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى