الدرر واليواقيت في شرح متن الورقات (2)
صفحة 1 من اصل 1
الدرر واليواقيت في شرح متن الورقات (2)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا مولانا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد :
فهذا هو الدرس الثاني من شرح متن ورقات امام الحرمين ، وسنتكلم فيه (إن شاء الله) على مقدمة المؤلف وتعريف اصول الفقه ومبادئه قال - رحمه الله ونفعنا به -:
[بسم الله الرحمن الرحيم] أصنف، وكذا ينبغي أن يجعل متعلق التسمية ما جعلت التسمية مبدأ له، فيقدر الآكل: بسم الله آكل، والقارئ: بسم الله أقرأ، فهو أولى من تقدير: أبتدىء، لإفادته تلبس الفعل كله بالتسمية، وأبتدئ لا يفيد إلا تلبس الابتداء به، وتقدير المتعلق متأخرا لأن المقصود الأهم البداءة باسم الله تعالى، تبركا ولإفادة الحصر ايضا.
وافتتح المؤلف – رحمه الله – كتابه بالبسملة ، تبركا واقتداءا بكتاب الله وبسنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وشرح البسملة يطول الكلام فيه، وهو مشهور في الكتب، وقد تعرضنا له في شرح بعض الكتب الماضية، فليراجعها من اراد الزيادة.
ثم ان هذه النسخة التي أشرح عليها ليس فيها الحمدلة ولا الصلاة على سيدنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهي التي شرح عليها جلال الدين المحلي وجمهور الشراح، بخلاف التي شرح عليها شمس الدين محمد المارديني، فان فيها بعد البسملة: (الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد ...)
قال الحطاب: واكتفى بالبسملة عن الحمدلة إما لأنه حمد بلسانه، وذلك كاف، أو لأن المراد بالحمد معناه لغة، وهو الثناء، والبسملة متضمنة لذلك، أو لأن المراد بالحمد ذكر الله تعالى.اهـ
قلت: وكذا يقال في الصلاة والسلام على سيدنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم –، أي: انه صلى وسلم عليه بلسانه ولم يكتبها لان هذا الكتاب مختصر للتعريفات المبدئية في أصول الفقه، ولتسهيل تحصيل مسائله على المبتدئين ، والله أعلم
ثم قال: [هذه ورقات تشتمل على معرفة فصول من أصول الفقه وذلك لفظ مؤلف من جزءين مفردين أحدهما: الأصول. والثاني: الفقه].
قوله: [هذه] مبتدأ، وهي: إشارة إلى موجود في الذهن، إن كانت قبل التأليف، وإن كانت بعد التأليف, فالإشارة إلى موجود في الخارج.
قوله: [ورقات] خبر، وفي بعض النسخ "الورقات" بالالف واللام، فيكون على ذلك: نعت او بيان او بدل، ويكون ما بعدها هو الخبر، والورقات: جمع ورقة، وهو جمع مؤنث سالم من جموع القلة عند سيبويه، وذهب جماعة الى انه للكثرة، وقال آخرون - وهو الصحيح - انه صالح للأمرين، ما لم توجد قرينة تعين أحد الأمرين، والمؤلف هنا أراد به جمع قلة، وهو حقيقة في ما دل على ثلاثة فما فوقها إلى العشرة وجمع الكثرة يدل على ما فوق العشرة إلى غير نهاية ويستعمل كل منهما في موضع الآخر مجازا.
والدليل على انه أراد به جمع قلة : انه لا يوجد في النسخ الخطية – على ما وقفت عليه - نسخة تجاوزت عشر ورقات، بل النسخة الاكثر عددا عندي لم تتجاوز خمس ورقات، ويدل الواقع ايضا على هذا، فلو كُتب المتن بخط اليد العادي؛ فإنه لن يصل الى سبع ورقات فضلا عن تجاوزها. والله أعلم
وعبر بـ "ورقات": وأراد بها التقليل؛ للتسهيل على الطالب والتنشيط له على حفظها ودراستها، كما قال تعالى في فرض صوم شهر رمضان على قول من أقوال المفسرين: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 184] فوصف الشهر الكامل بأنه أيام معدودات، تسهيلا على المكلفين وتنشيطا لهم.
وجملة قوله: [تشتمل] صفة لورقات، أو خبر إن كانت "الورقات" بالالف واللام كما تقدم، و اشتمل الأمرُ على كذا: تضمّنه واحتواه.
قوله: [ على معرفة ] متعلق بـ "تشتمل"، والمعرفة لغة: ضد الانكار، وهي في الاصطلاح مرادفة للعلم، أي: انها إدراك الشيء على ما هو به في الواقع إدراكا جازما ويقال: ملكه يقتدر بها على إدراك الجزئيات، وقيل: المعرفة: إدراك الأمر الجزئي أو البسيط مطلقا كان ذلك عن دليل؛ أو لا ، وقيل: إدراك الشيء بتفكر وتدبر، فهو أخص من العلم. ويقال فلان يعرف الله، ولا يقال يعلم الله، لما كانت المعرفة تستعمل في العلم القاصر المتوصل إليه بتفكر، ويضاد المعرفة؛ الإنكار كما سبق، ويضاد العلم؛ الجهل.
قوله: [ فصول ] جمع فصل؛ وهو لغة: مصدر فصل يفصل فصلا، وهو القطع، والحاجز بين الشيئين، واصطلاحا: اسم لجملة مختصة من العلم، تشتمل على طائفة من المسائل غالباً، وقيل: سمي فصلا لانفصاله عن غيره بمخالفته له، والباب أعم من الفصل لأنه اسم لجملة مختصة من العلم، تشتمل على فصول ومسائل غالباً، والكتاب أعم لأنه اسم لجملة مختصة من العلم تشتمل على أبواب وفصول ومسائل غالباً.
وإنما يصنع المصنفون ذلك لتنشيط النفس وبعثها على التحصيل والاستمرار في الطلب بما يحصل لها من السرور بالختم والابتداء، كالمسافر إذا قطع مرحلة من سفره شرع في أخرى، والتنوين في قوله: " فصولٍ " إما للتعظيم أو للتعميم لاحتواء هذه الورقات مع صغر حجمها على معظم مسائل علم أصول الفقه.
قوله: [ من ] للتبعيض؛ أي: بعض علم [ أصول الفقه ] هذا هو لقب هذا الفن، قال العلماء: لابُدَّ لكل شارع في فن من الفنون، أو علم من العلوم؛ أن يتصوره قبل الشروع فيه، ليكون على دراية وبصيرة بما سيدرس، وإلا صار كمَن ركب متنَ عمياء، وخبَطَ خبْطَ ناقةٍ عشواء، ويحصل هذا التصور بمعرفة مبادئه العشرة، إذ أن لكل فن وعلم مبادئ عشرة ينبغي تعلمها قبل الشروع فيه، ، فإذا تعلمها طالب العلم قبل الشروع فيه ، كان على بصيرة تامة عند أخذ فروعه، وقد جمعها سيدي العلامة أحمد بن زكري (المتوفى:899 هـ) – رحمه الله - في أبيات فقال:
الحدُّ والموضوع ثمّ الواضعْ ... والِاْسم الِاْستمداد حكم الشارعْ
تصـوّرُ المسائـلِ الفضيلـةِ ... ونسبـةٍ فائـدةٍ جلـيـلـةِ
حقٌّ على طالبِ علمٍ أن يُحيطْ ... بفهمِ ذي العشْرةِ ميْزها يُنيطْ
حد أصول الفقه باعتباره عَلَمًا ولقبًا على هذا الفن هو : معرفة دلائل الفقه إجمالاً، وكيفية الاستفادة منها وحال المستفيد، وسيأتي شرح هذا التعريف – إن شاء الله -.
وعرفه ابن القاضي التهانوي الحنفي بقوله: العلم بالقواعد التي يُتَوصَّل بها إلى الفقه على وجه التحقيق. اهـ .
وعرفه بعضهم بقوله: القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الاحكام الشرعية من الادلة التفصيلية. اهـ
فكل هذه التعاريف قريبة في المعنى، لكن التعريف الاول هو المشهور عند الجمهور.
وموضوعه: هو الأدلة الموصلة إلى معرفة الأحكام الشرعية العملية وأقسامها واختلاف مراتبها. وكيفية الاستدلا بها، مع معرفة حال المستدل.
وواضعه: هو الإمام محمد بن إدريس الشافعي - رحمه الله - وذلك في كتاب سماه: (الرسالة) قال صاحب المراقي:
أول من ألفه في الكتب ... محمد ابن شافع المطَّلِبي
وغيره كان له سليقه ... مثل الذي للعرب من خليقه
واسمه : علم أصول الفقه، ويسمّى هو وعلم الفقه بعلم الدراية أيضا على ما في مجمع السلوك.
واستمداده : من عدة علوم منها:
1 - القرآن وعلومه كالكلام عن مباحث النسخ، والقراءة الشاذة، ووجود المجاز في القرآن -، وهل فيه ألفاظ بغير العربية، والمحكم والمتشابه، ونحو ذلك.
2 - الحديث وعلومه كالكلام عن الآحاد والمتواتر، والمشهور، وحجية كل نوع، وشروط الراوي المتفق عليها والمختلف فيها، وأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم وغير ذلك.
3 - الفقه وعلم الجدل، كالكلام عن القياس، وقوادح العِلَّة، والتعارض والترجيح.
4 - اصول الدين وعلم الكلام، كالكلام عن الحكم الشرعي وأقسامه، وتكليف ما لا يطاق، وتكليف المعدوم، ومسألة التحسين والتقبيح العقليين، ونحو ذلك.
5 - اللغة العربية ، كالكلام عن الأمر والنهي، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل، والمبين، والمنطوق، والمفهوم، والحقيقة، والمجاز،
6 – علم النحو، كالكلام عن حروف المعاني، والكلام عن الاستثناء، ونحو ذلك.
وحكمه : فرض كفاية، وقد يكون فرض عين على من أن أراد الاجتهاد والحكم والفتوى.
ومسائله : مباحثه التي ستذكر فيه، كالاحكام، والأمر والنهي، والعام والخاص، والمجمل والمبين، والظاهر والمؤول، والأفعال والناسخ والمنسوخ، والإجماع والأخبار، والقياس والحظر والإباحة وترتيب الأدلة، وصفة المفتى والمستفتى وأحكام المجتهدين وغير ذلك.
وفضله: انه أجل العلوم قدراً، وأعظمها نفعاً، وأعمها فائدة، وأكثرها أهمية، وأعلاها شرفاً، وأميزها ذكراً، وذلك لما يتعلق به من مصالح العباد في المعاش والمعاد، وقد حث الله عز وجل على التفقه في الدين ومعرفة أحكام شرعه والدعوة اليه، فقال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : " من يرد اللَّه به خيراً يفقهه في الدين "، وقال: "خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا ".اهـ فكل ما ورد في فضيلة الفقه، نحكم به لعلم أصول الفقه. لان الفقه متوقف على العلم باصول الفقه. إذ هو وسيلة إليه، والوسائل لها أحكام المقاصد.
ونسبته إلى غيره: أي مرتبته من العلوم الأخرى. أنه من العلوم الشرعية. وهو للفقه. كأصول النحو للنحو. وعلوم الحديث للحديث.
وثمرته وفائدته كثيرة منها:
1 - القدرة على استنباط الأحكام الشرعية على أسس سليمة
2 - معرفة أن الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان. وأنها قادرة على إيجاد الأحكام لما يستجد من حوادث على مر العصور.
3 - العالم بالأصول يشعر بالثقة والاطمئنان لما دونه فقهاء الإسلام. وأنه مبني على قواعد ثابتة مقررة شرعاً، ممحصة بحثاً.
4 - العارف بالقواعد الأصولية يستطيع أن يُخرِّج المسائل والفروع الغير المنصوص عليها على قواعد إمامه.
5 – معرفة العلَل والحِكَم التي من أجلها شرعت الأحكام الشرعية؛ لعبادة اللَّه تعالى على بصيرة وعلم.
فالمتعلم لهذا العلم والمدقق فيه يدرك من المنافع الشرعية، والأحكام الفقهية، والفوائد والمقاصد العامة ما لا يعد ولا يحصى.
قوله : [ و] للإستئناف، [ ذلك ] اسم اشارة وهو مبتدأ، والضمير فيه عائد على أقرب مذكور وهو: "أصول الفقه" .
قوله : [ لفظ ] هكذا في ثلاث نسخ عندي، وهو خبر المبتدأ، ومعنى اللفظ في اللغة: الطرح والرمي مطلقا، ورمي شيء من الفم سواء كان المرمي حرفا او غيره، يقال: أكلت الثمرة ولفظت النواة؛ أي: طرحتها، وفي الاصطلاح هو: ما يتلفظ به الإنسان حقيقة أو حكما مهملا كان أو موضوعا مفردا كان أو مركبا.
والمصنف – رحمه الله تعالى – أطلق "أصول الفقه" أولا ومراده الفن المخصوص أي: علم أصول الفقه، ثم أتى باسم الاشارة الذي هو بمنزلة الضمير عائدا عليه؛ ولكن باعتبار لفظه؛ لا بالمعنى السابق، ولذلك عبر باسم الاشارة الدال على البعيد مع ان المشار اليه قريب تنبيها على أن الظاهر المتبادر الى الذهن غير مراد، بل نص على ذلك صراحة ورفع الاحتمال بقوله: "لفظ مؤلف من جزءين مفردين" وبهذا يعلم انه لا حاجة لتقديرات وتأويلات بعض الشراح – رحمهم الله تعالى – فقوله : " لفظ " نص وهو موجود في غالب النسخ.
قوله : [ مؤلف ] صفة للفظ، والتأليف في اللغة: ضم شيء إلى شيء آخر، وقال ابن منظور في اللسان: ألفت الشيء تأليفا إذا وصلت بعضه ببعض؛ ومنه تأليف الكتب.
وفي الاصطلاح : جعل الأشياء الكثيرة بحيث يطلق عليها اسم الواحد سواء كان لبعض أجزائه نسبة إلى بعض بالتقدم والتأخر أم لا، فهو أعم من الترتيب الذي هو وضع كل شيء في مرتبته، وأخص من التركيب الذي هو كالترتيب لكن ليس لبعض الأشياء فيه نسبة إلى بعض بالتقدم والتأخر.
وقال أبو البقاء: أصله [ أي: التاليف ] الجمع بين شيئين فصاعدا على وجه التناسب، ولذلك سميت الصداقة ألفة لتوافق الطباع فيها والقلوب. اهـ وهو حقيقة في الأجسام، ومجاز في الحروف.
قوله : [ من جزءين ] متعلق بالصفة، والجُزء في اللغة: البعْضُ، والقطعة من الشيء، ويجمع على أجزاء، وجَزَأَ الشيءَ جَزْءاً وجَزَّأَه كِلَاهُمَا: جَعله أَجْزاء.
واصطلاحا: ما يتركب عنه وعن غيره شيء هو الكل.
قوله: [ مفردين ] المراد بالإفراد هنا ما يقابل التركيب لا ما يقابل التثنية والجمع، لأن أحد الجزءين وهو لفظ "أصول" جمع، فدل على أن المفرد ما ليس بمركب.
وإنما قال: "مفردين" ليبين أن التأليف قد يكون من جزءين مفردين كما هنا. وقد يكون من جملتين نحو: إن قام زيد قمت. فإن الفعل والفاعل "قام زيد" جملة و"قمت" جملة أخرى، فلما دخل عليهما حرف الشرط؛ صارت كل واحدة منها جزءا من الجملة الشرطية، فهذا تاليف من جزئين مركبين.
قوله : [ أحدهما: ] أي: أحد هذين الجزئين المفردين هو [ الأصول ] .
قوله : [ والآخر ] أي: ثانيهما هو [ الفقه ] ، فكلمة "اصول" وكلمة "فقه" منهما تألف اسم هذا العلم، فلهما تعريفان: تعريف بالمعنى الإضافي، وتعريف بالمعنى التركيبي، أما تعريفهما بالمعنى الإضافي فالمقصود به: تعريف كلمة: " أصول " بغض النظر عن إضافتها إلى كلمة: " فقه "، وتعريف كلمة: " فقه " بغض النظر عن إضافة كلمة: " أصول " إليها، ثم بعد ذلك التعريف يأتي التعريف بالمعنى اللقبي: وهو ما يدل عليه هذا الاسم.
فمعرفة المؤلف متوقفة على معرفة أجزائه، ثم على معرفة فائدة النسبة بين المضاف والمضاف إليه.
والحمد لله وحده، وصلواته وسلامه على سيدنا ومولانا محمد وآله.
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا مولانا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد :
فهذا هو الدرس الثاني من شرح متن ورقات امام الحرمين ، وسنتكلم فيه (إن شاء الله) على مقدمة المؤلف وتعريف اصول الفقه ومبادئه قال - رحمه الله ونفعنا به -:
[بسم الله الرحمن الرحيم] أصنف، وكذا ينبغي أن يجعل متعلق التسمية ما جعلت التسمية مبدأ له، فيقدر الآكل: بسم الله آكل، والقارئ: بسم الله أقرأ، فهو أولى من تقدير: أبتدىء، لإفادته تلبس الفعل كله بالتسمية، وأبتدئ لا يفيد إلا تلبس الابتداء به، وتقدير المتعلق متأخرا لأن المقصود الأهم البداءة باسم الله تعالى، تبركا ولإفادة الحصر ايضا.
وافتتح المؤلف – رحمه الله – كتابه بالبسملة ، تبركا واقتداءا بكتاب الله وبسنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وشرح البسملة يطول الكلام فيه، وهو مشهور في الكتب، وقد تعرضنا له في شرح بعض الكتب الماضية، فليراجعها من اراد الزيادة.
ثم ان هذه النسخة التي أشرح عليها ليس فيها الحمدلة ولا الصلاة على سيدنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهي التي شرح عليها جلال الدين المحلي وجمهور الشراح، بخلاف التي شرح عليها شمس الدين محمد المارديني، فان فيها بعد البسملة: (الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد ...)
قال الحطاب: واكتفى بالبسملة عن الحمدلة إما لأنه حمد بلسانه، وذلك كاف، أو لأن المراد بالحمد معناه لغة، وهو الثناء، والبسملة متضمنة لذلك، أو لأن المراد بالحمد ذكر الله تعالى.اهـ
قلت: وكذا يقال في الصلاة والسلام على سيدنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم –، أي: انه صلى وسلم عليه بلسانه ولم يكتبها لان هذا الكتاب مختصر للتعريفات المبدئية في أصول الفقه، ولتسهيل تحصيل مسائله على المبتدئين ، والله أعلم
ثم قال: [هذه ورقات تشتمل على معرفة فصول من أصول الفقه وذلك لفظ مؤلف من جزءين مفردين أحدهما: الأصول. والثاني: الفقه].
قوله: [هذه] مبتدأ، وهي: إشارة إلى موجود في الذهن، إن كانت قبل التأليف، وإن كانت بعد التأليف, فالإشارة إلى موجود في الخارج.
قوله: [ورقات] خبر، وفي بعض النسخ "الورقات" بالالف واللام، فيكون على ذلك: نعت او بيان او بدل، ويكون ما بعدها هو الخبر، والورقات: جمع ورقة، وهو جمع مؤنث سالم من جموع القلة عند سيبويه، وذهب جماعة الى انه للكثرة، وقال آخرون - وهو الصحيح - انه صالح للأمرين، ما لم توجد قرينة تعين أحد الأمرين، والمؤلف هنا أراد به جمع قلة، وهو حقيقة في ما دل على ثلاثة فما فوقها إلى العشرة وجمع الكثرة يدل على ما فوق العشرة إلى غير نهاية ويستعمل كل منهما في موضع الآخر مجازا.
والدليل على انه أراد به جمع قلة : انه لا يوجد في النسخ الخطية – على ما وقفت عليه - نسخة تجاوزت عشر ورقات، بل النسخة الاكثر عددا عندي لم تتجاوز خمس ورقات، ويدل الواقع ايضا على هذا، فلو كُتب المتن بخط اليد العادي؛ فإنه لن يصل الى سبع ورقات فضلا عن تجاوزها. والله أعلم
وعبر بـ "ورقات": وأراد بها التقليل؛ للتسهيل على الطالب والتنشيط له على حفظها ودراستها، كما قال تعالى في فرض صوم شهر رمضان على قول من أقوال المفسرين: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 184] فوصف الشهر الكامل بأنه أيام معدودات، تسهيلا على المكلفين وتنشيطا لهم.
وجملة قوله: [تشتمل] صفة لورقات، أو خبر إن كانت "الورقات" بالالف واللام كما تقدم، و اشتمل الأمرُ على كذا: تضمّنه واحتواه.
قوله: [ على معرفة ] متعلق بـ "تشتمل"، والمعرفة لغة: ضد الانكار، وهي في الاصطلاح مرادفة للعلم، أي: انها إدراك الشيء على ما هو به في الواقع إدراكا جازما ويقال: ملكه يقتدر بها على إدراك الجزئيات، وقيل: المعرفة: إدراك الأمر الجزئي أو البسيط مطلقا كان ذلك عن دليل؛ أو لا ، وقيل: إدراك الشيء بتفكر وتدبر، فهو أخص من العلم. ويقال فلان يعرف الله، ولا يقال يعلم الله، لما كانت المعرفة تستعمل في العلم القاصر المتوصل إليه بتفكر، ويضاد المعرفة؛ الإنكار كما سبق، ويضاد العلم؛ الجهل.
قوله: [ فصول ] جمع فصل؛ وهو لغة: مصدر فصل يفصل فصلا، وهو القطع، والحاجز بين الشيئين، واصطلاحا: اسم لجملة مختصة من العلم، تشتمل على طائفة من المسائل غالباً، وقيل: سمي فصلا لانفصاله عن غيره بمخالفته له، والباب أعم من الفصل لأنه اسم لجملة مختصة من العلم، تشتمل على فصول ومسائل غالباً، والكتاب أعم لأنه اسم لجملة مختصة من العلم تشتمل على أبواب وفصول ومسائل غالباً.
وإنما يصنع المصنفون ذلك لتنشيط النفس وبعثها على التحصيل والاستمرار في الطلب بما يحصل لها من السرور بالختم والابتداء، كالمسافر إذا قطع مرحلة من سفره شرع في أخرى، والتنوين في قوله: " فصولٍ " إما للتعظيم أو للتعميم لاحتواء هذه الورقات مع صغر حجمها على معظم مسائل علم أصول الفقه.
قوله: [ من ] للتبعيض؛ أي: بعض علم [ أصول الفقه ] هذا هو لقب هذا الفن، قال العلماء: لابُدَّ لكل شارع في فن من الفنون، أو علم من العلوم؛ أن يتصوره قبل الشروع فيه، ليكون على دراية وبصيرة بما سيدرس، وإلا صار كمَن ركب متنَ عمياء، وخبَطَ خبْطَ ناقةٍ عشواء، ويحصل هذا التصور بمعرفة مبادئه العشرة، إذ أن لكل فن وعلم مبادئ عشرة ينبغي تعلمها قبل الشروع فيه، ، فإذا تعلمها طالب العلم قبل الشروع فيه ، كان على بصيرة تامة عند أخذ فروعه، وقد جمعها سيدي العلامة أحمد بن زكري (المتوفى:899 هـ) – رحمه الله - في أبيات فقال:
الحدُّ والموضوع ثمّ الواضعْ ... والِاْسم الِاْستمداد حكم الشارعْ
تصـوّرُ المسائـلِ الفضيلـةِ ... ونسبـةٍ فائـدةٍ جلـيـلـةِ
حقٌّ على طالبِ علمٍ أن يُحيطْ ... بفهمِ ذي العشْرةِ ميْزها يُنيطْ
حد أصول الفقه باعتباره عَلَمًا ولقبًا على هذا الفن هو : معرفة دلائل الفقه إجمالاً، وكيفية الاستفادة منها وحال المستفيد، وسيأتي شرح هذا التعريف – إن شاء الله -.
وعرفه ابن القاضي التهانوي الحنفي بقوله: العلم بالقواعد التي يُتَوصَّل بها إلى الفقه على وجه التحقيق. اهـ .
وعرفه بعضهم بقوله: القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الاحكام الشرعية من الادلة التفصيلية. اهـ
فكل هذه التعاريف قريبة في المعنى، لكن التعريف الاول هو المشهور عند الجمهور.
وموضوعه: هو الأدلة الموصلة إلى معرفة الأحكام الشرعية العملية وأقسامها واختلاف مراتبها. وكيفية الاستدلا بها، مع معرفة حال المستدل.
وواضعه: هو الإمام محمد بن إدريس الشافعي - رحمه الله - وذلك في كتاب سماه: (الرسالة) قال صاحب المراقي:
أول من ألفه في الكتب ... محمد ابن شافع المطَّلِبي
وغيره كان له سليقه ... مثل الذي للعرب من خليقه
واسمه : علم أصول الفقه، ويسمّى هو وعلم الفقه بعلم الدراية أيضا على ما في مجمع السلوك.
واستمداده : من عدة علوم منها:
1 - القرآن وعلومه كالكلام عن مباحث النسخ، والقراءة الشاذة، ووجود المجاز في القرآن -، وهل فيه ألفاظ بغير العربية، والمحكم والمتشابه، ونحو ذلك.
2 - الحديث وعلومه كالكلام عن الآحاد والمتواتر، والمشهور، وحجية كل نوع، وشروط الراوي المتفق عليها والمختلف فيها، وأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم وغير ذلك.
3 - الفقه وعلم الجدل، كالكلام عن القياس، وقوادح العِلَّة، والتعارض والترجيح.
4 - اصول الدين وعلم الكلام، كالكلام عن الحكم الشرعي وأقسامه، وتكليف ما لا يطاق، وتكليف المعدوم، ومسألة التحسين والتقبيح العقليين، ونحو ذلك.
5 - اللغة العربية ، كالكلام عن الأمر والنهي، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل، والمبين، والمنطوق، والمفهوم، والحقيقة، والمجاز،
6 – علم النحو، كالكلام عن حروف المعاني، والكلام عن الاستثناء، ونحو ذلك.
وحكمه : فرض كفاية، وقد يكون فرض عين على من أن أراد الاجتهاد والحكم والفتوى.
ومسائله : مباحثه التي ستذكر فيه، كالاحكام، والأمر والنهي، والعام والخاص، والمجمل والمبين، والظاهر والمؤول، والأفعال والناسخ والمنسوخ، والإجماع والأخبار، والقياس والحظر والإباحة وترتيب الأدلة، وصفة المفتى والمستفتى وأحكام المجتهدين وغير ذلك.
وفضله: انه أجل العلوم قدراً، وأعظمها نفعاً، وأعمها فائدة، وأكثرها أهمية، وأعلاها شرفاً، وأميزها ذكراً، وذلك لما يتعلق به من مصالح العباد في المعاش والمعاد، وقد حث الله عز وجل على التفقه في الدين ومعرفة أحكام شرعه والدعوة اليه، فقال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : " من يرد اللَّه به خيراً يفقهه في الدين "، وقال: "خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا ".اهـ فكل ما ورد في فضيلة الفقه، نحكم به لعلم أصول الفقه. لان الفقه متوقف على العلم باصول الفقه. إذ هو وسيلة إليه، والوسائل لها أحكام المقاصد.
ونسبته إلى غيره: أي مرتبته من العلوم الأخرى. أنه من العلوم الشرعية. وهو للفقه. كأصول النحو للنحو. وعلوم الحديث للحديث.
وثمرته وفائدته كثيرة منها:
1 - القدرة على استنباط الأحكام الشرعية على أسس سليمة
2 - معرفة أن الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان. وأنها قادرة على إيجاد الأحكام لما يستجد من حوادث على مر العصور.
3 - العالم بالأصول يشعر بالثقة والاطمئنان لما دونه فقهاء الإسلام. وأنه مبني على قواعد ثابتة مقررة شرعاً، ممحصة بحثاً.
4 - العارف بالقواعد الأصولية يستطيع أن يُخرِّج المسائل والفروع الغير المنصوص عليها على قواعد إمامه.
5 – معرفة العلَل والحِكَم التي من أجلها شرعت الأحكام الشرعية؛ لعبادة اللَّه تعالى على بصيرة وعلم.
فالمتعلم لهذا العلم والمدقق فيه يدرك من المنافع الشرعية، والأحكام الفقهية، والفوائد والمقاصد العامة ما لا يعد ولا يحصى.
قوله : [ و] للإستئناف، [ ذلك ] اسم اشارة وهو مبتدأ، والضمير فيه عائد على أقرب مذكور وهو: "أصول الفقه" .
قوله : [ لفظ ] هكذا في ثلاث نسخ عندي، وهو خبر المبتدأ، ومعنى اللفظ في اللغة: الطرح والرمي مطلقا، ورمي شيء من الفم سواء كان المرمي حرفا او غيره، يقال: أكلت الثمرة ولفظت النواة؛ أي: طرحتها، وفي الاصطلاح هو: ما يتلفظ به الإنسان حقيقة أو حكما مهملا كان أو موضوعا مفردا كان أو مركبا.
والمصنف – رحمه الله تعالى – أطلق "أصول الفقه" أولا ومراده الفن المخصوص أي: علم أصول الفقه، ثم أتى باسم الاشارة الذي هو بمنزلة الضمير عائدا عليه؛ ولكن باعتبار لفظه؛ لا بالمعنى السابق، ولذلك عبر باسم الاشارة الدال على البعيد مع ان المشار اليه قريب تنبيها على أن الظاهر المتبادر الى الذهن غير مراد، بل نص على ذلك صراحة ورفع الاحتمال بقوله: "لفظ مؤلف من جزءين مفردين" وبهذا يعلم انه لا حاجة لتقديرات وتأويلات بعض الشراح – رحمهم الله تعالى – فقوله : " لفظ " نص وهو موجود في غالب النسخ.
قوله : [ مؤلف ] صفة للفظ، والتأليف في اللغة: ضم شيء إلى شيء آخر، وقال ابن منظور في اللسان: ألفت الشيء تأليفا إذا وصلت بعضه ببعض؛ ومنه تأليف الكتب.
وفي الاصطلاح : جعل الأشياء الكثيرة بحيث يطلق عليها اسم الواحد سواء كان لبعض أجزائه نسبة إلى بعض بالتقدم والتأخر أم لا، فهو أعم من الترتيب الذي هو وضع كل شيء في مرتبته، وأخص من التركيب الذي هو كالترتيب لكن ليس لبعض الأشياء فيه نسبة إلى بعض بالتقدم والتأخر.
وقال أبو البقاء: أصله [ أي: التاليف ] الجمع بين شيئين فصاعدا على وجه التناسب، ولذلك سميت الصداقة ألفة لتوافق الطباع فيها والقلوب. اهـ وهو حقيقة في الأجسام، ومجاز في الحروف.
قوله : [ من جزءين ] متعلق بالصفة، والجُزء في اللغة: البعْضُ، والقطعة من الشيء، ويجمع على أجزاء، وجَزَأَ الشيءَ جَزْءاً وجَزَّأَه كِلَاهُمَا: جَعله أَجْزاء.
واصطلاحا: ما يتركب عنه وعن غيره شيء هو الكل.
قوله: [ مفردين ] المراد بالإفراد هنا ما يقابل التركيب لا ما يقابل التثنية والجمع، لأن أحد الجزءين وهو لفظ "أصول" جمع، فدل على أن المفرد ما ليس بمركب.
وإنما قال: "مفردين" ليبين أن التأليف قد يكون من جزءين مفردين كما هنا. وقد يكون من جملتين نحو: إن قام زيد قمت. فإن الفعل والفاعل "قام زيد" جملة و"قمت" جملة أخرى، فلما دخل عليهما حرف الشرط؛ صارت كل واحدة منها جزءا من الجملة الشرطية، فهذا تاليف من جزئين مركبين.
قوله : [ أحدهما: ] أي: أحد هذين الجزئين المفردين هو [ الأصول ] .
قوله : [ والآخر ] أي: ثانيهما هو [ الفقه ] ، فكلمة "اصول" وكلمة "فقه" منهما تألف اسم هذا العلم، فلهما تعريفان: تعريف بالمعنى الإضافي، وتعريف بالمعنى التركيبي، أما تعريفهما بالمعنى الإضافي فالمقصود به: تعريف كلمة: " أصول " بغض النظر عن إضافتها إلى كلمة: " فقه "، وتعريف كلمة: " فقه " بغض النظر عن إضافة كلمة: " أصول " إليها، ثم بعد ذلك التعريف يأتي التعريف بالمعنى اللقبي: وهو ما يدل عليه هذا الاسم.
فمعرفة المؤلف متوقفة على معرفة أجزائه، ثم على معرفة فائدة النسبة بين المضاف والمضاف إليه.
والحمد لله وحده، وصلواته وسلامه على سيدنا ومولانا محمد وآله.
مواضيع مماثلة
» الدرر واليواقيت في شرح متن الورقات (1)
» الدرر واليواقيت في شرح متن الورقات (2)
» دروس شرح متن الورقات / مرئي
» الدرر واليواقيت في شرح متن الورقات (2)
» دروس شرح متن الورقات / مرئي
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى