تفسير الآية (11) من سورة الحجرات
صفحة 1 من اصل 1
تفسير الآية (11) من سورة الحجرات
[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة]
الحمد لله رب العالمين، منزل الكتاب ، واهب العطاء ، اختص من شاء بما شاء ، فهو السميع، العليم، الحكيم، الكريم، المبدئ، المعيد، الوهاب .والصلاة والسلام على سيدنا محمد المخصوص بالكمالات ، السراج المنير، والبشير النذير، الفارق بين الحق والباطل، والهدى والضلال ، والرشاد والغى ، صلى الله وسلم وبارك عليه ، وزاده فضلاً وشرفاً لديه ، وعلى آله الأطهار ، ورضى الله عن صحابته الأبرار ، ومن تبعه بإحسان أمابعد:
فهذا تفسير متواضع للآية (11) من سورة الحجرات، نسأل الله أن يجعله لوجه الكريم، بمنه وفضله العميم، قال سبحانه وتعالى:
[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذه الصورة]
أولا - اللغة:
ـــــــــــــــــــ
1 - يسخر فعل مضارع من سَخِرْت منه أَسْخَرُ سَخَراً بالتحريك، ومَسْخَراً وسُخْراً ، والاسم "السخرية" قال القاضي عياض: السخرية بِكَسْر السِّين من الِاسْتِهْزَاء والاستجهال وَبِضَمِّهَا من السخرة والتسخير وَقُرِئَ ليتَّخذ بَعْضكُم بَعْضًا سخريا بِالْوَجْهَيْنِ على الْمَعْنيين.اهـ
وقال أعشى باهِلَةَ:
إنّي أَتَتْني لِسانٌ لا أُسَرُّ بها * من عَلْوَُِ لا عَجَبٌ مِنْهُ ولا سَخَرُ.
قال ابو هلال العسكري:
الفرق بين الاستهزاء والسخرية: أن الانسان يستهزأ به من غير أن يسبق منه فعل يستهزأ به من أجله، والسخر يدل على فعل يسبق من المسخور منه والعبارة من اللفظين تدل عن صحة ما قلناه وذلك أنك تقول استهزأت به فتعدى الفعل منك بالباء والباء للالصاق كأنك ألصقت به استهزاء من غير أن يدل على شئ وقع الاستهزاء من أجله، وتقول سخرت منه فيقتضي ذلك من وقع السخر من أجله كما تقول تعجبت منه فيدل ذلك على فعل وقع التعجب من أجله، ويجوز أن يقال أصل سخرت منه التسخير وهو تذليل الشئ وجعلك إياه منقادا فكأنك إذا سخرت منه جعلته كالمنقاد لك، ودخلت من للتبعيض لانك لم تسخره كما تسخر الدابة وغيرها وإنما خدعته عن بعض عقله، وبني الفعل منه على فعلت لانه بمعنى عنيت وهو أيضا كالمطاوعة والمصدر السخرية كأنها منسوبة إلى السخرة مثل العبودية واللصوصية، وأما قوله تعالى " ليتخذ بعضهم بعضا سخريا " فإنما هو بعث الشئ المسخر ولو وضع موضع المصدر جاز، والهزء يجري مجرى العبث ولهذا جاز هزأت مثل عبثت فلا يقتضي معنى التسخير فالفرق بينهما بين.
2 - القَوْمُ: الرجال دون النساء، لا واحد له من لفظه. قال زهير:
وما أدري وسَوف إخالُ أدري ... أقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أم نساءُ
وربما دخل النساء فيه على سبيل التبع لأن قوم كل نبي رجال ونساء، وجمع القَوْمِ أقوامٌ، وجمع الجمع أقاوِمُ. قال أبو صخر:
فإن يَعْذِرِ القلبُ العَشِيَّةُ في الصِبا ... فُؤادَكَ لا يَعْذِرْكَ فيه الأقاوِمُ
و (القوم) يذكر ويؤنث لأن أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها إذا كان للآدميين يذكر ويؤنث مثل الرهط والنفر والقوم قال الله تعالى: {وكذب به قومك} [الأنعام: 66] وقال: {كذبت قوم نوح} [الشعراء: 105]
3 - ولمَزَ الشَّخصَ يلمُزه ويلمِزه، لَمْزًا، فهو لامِز، والمفعول مَلْموز، أشار إليه بعينه أو برأسه أو بشفتيه مع كلام خفيّ لذكر عيوبِه، والهَمْز واللَّمْز: الطَّعن في أعراض النّاس أو الانتقاص منهم بالتلميح. وقال الزبيدي: اللمز: العيب في الوجه ... والهمزة: من يعيبك في الغيب. أو الهمزة: المغتاب للناس
وَأنْشد أَبُو عُبيدة وَذكر أَنه المغتاب:
(إِذا لَقِيتُك عَن شَحْطٍ تُكاشِرني ... وَإِن تغيّبتُ كنتَ الهامزَ اللُّمَزَهْ).
4 - النبَز: بالتحريك: اللقَب، والجمع الأنْبازُ. والنَبْزُ بالتسكين: المصدر. تقول: نَبزَهُ يَنْبِزُهُ نَبْزاً، أي لقَّبه. وفلان يُنَبِّزُ بالصِبيان، أي يلقّبهم، شدّد للكثرة. وتَنابَزوا بالألقاب، أي لقب بعضهم بعضا.
قال في المصباح:
وقد يجعل اللقب علما من غير نبز فلا يكون حراما ومنه تعريف بعض الأئمة المتقدمين بالأعمش والأخفش والأعرج ونحوه لأنه لا يقصد بذلك نبز ولا تنقيص بل محض تعريف مع رضا المسمى به.
5 - الفسوق والْفسق الْخُرُوج عَن الشَّيْء، ومنه (فسقت) الرطبة خرجت عن قشرها. و (فسق) عن أمر ربه أي خرج. وقيل للحيوانات الخمس فواسق استعارة وامتهانا لهن لكثرة خبثهن وأذاهن حتى قيل يقتلن في الحل.
وفي الحرم وفي الصلاة ولا تبطل الصلاة بذلك. ويقال: الفويسقة للفأرة لخروجها من جحرها على الناس بالفساد.
ثانيا - الاعراب:
ــــــــــــــــــــــــــ
(يا أَيُّهَا) يا حرف نداء وأي منادى نكرة مقصودة مبني على الضم في محل نصب والهاء للتنبيه (الَّذِينَ) بدل من أيها (آمَنُوا) فعل وفاعل والجملة صلة الموصول (لا) ناهية جازمة (يسخر) فعل مضارع مجزوم بلا الناهية (قوم) فاعل (من قوم) متعلّق ب (يسخر) ، (عسى) فعل ماض تامّ (أن) حرف مصدريّ ونصب (يكونوا) فعل وفاعل (خيرا) خبر (منهم) متعلّق ب (خيرا) والمصدر المؤوّل (أن يكونوا..) في محلّ رفع فاعل عسى (الواو) عاطفة (لا) مثل الأولى (نساء) فاعل لفعل محذوف يفسره ما قبله أي: لا يسخر نساء.. (من نساء) متعلّق بالفعل المقدّر، (عسى أن يكنّ خيرا منهنّ) مثل عسى أن يكونوا خيرا منهم، و (يكنّ) مضارع ناقص مبنيّ على السكون في محلّ نصب..
والمصدر المؤوّل (أن يكنّ..) في محلّ رفع فاعل عسى الثاني.
(الواو) عاطفة (لا) ناهية جازمة (تلمزوا أنفسكم) فعل وفاعل ومفعول به (الواو) عاطفة (لا) ناهية جازمة (تنابزوا)فعل وفاعل (بالألقاب) متعلّق ب (تنابزوا) ، (بئس) فعل ماض جامد لإنشاء الذم (الاسم) فاعله (الفسوق) خبر لمبتدأ محذوف وجوبا تقديره هو- وهو المخصوص بالذمّ، (بعد الايمان) الظرف منصوب متعلّق بمحذوف حال ،(الواو) عاطفة (من) اسم شرط جازم مبتدأ (لم) حرف نفي وقلب وجزم (يتب) فعل مضارع مجزوم(هم) ضمير فصل لا محل له أو مبتدأ ثان (الظالمون) خبر من أو خبرهم .
الجمل:
ــــــــــــــ
جملة: «النداء ... » لا محلّ لها استئنافيّة.
وجملة: «آمنوا ... » لا محلّ لها صلة الموصول (الذين) .
وجملة: «لا يسخر قوم ... » لا محلّ لها جواب النداء.
وجملة: «عسى أن يكونوا ... » لا محلّ لها تعليليّة.
وجملة: «يكونوا ... » لا محلّ لها صلة الموصول الحرفيّ (أن) .
وجملة: « (لا يسخر) نساء ... » لا محلّ لها معطوفة على جملة جواب النداء.
وجملة: «عسى أن يكنّ ... » لا محلّ لها تعليليّة.
وجملة: «يكنّ ... » لا محلّ لها صلة الموصول الحرفيّ (أن) .
وجملة: «لا تلمزوا ... » لا محلّ لها معطوفة على جملة جواب النداء.
وجملة: «لا تنابزوا ... » لا محلّ لها معطوفة على جملة جواب النداء.
وجملة: «بئس الاسم ... » لا محلّ لها اعتراضيّة.
وجملة: « (هو) الفسوق ... » في محلّ نصب حال من الاسم.
وجملة: «من لم يتب ... » لا محلّ لها معطوفة على جملة جواب النداء.
وجملة: «لم يتب ... » في محلّ رفع خبر المبتدأ (من) .
وجملة: «أولئك هم الظالمون» في محلّ جزم جواب الشرط مقترنة بالفاء.
ثالثا - الصرف:
ــــــــــــــــــــــــ
(يكنّ) ، فيه إعلال بالحذف لمناسبة البناء على السكون بدخول نون النسوة، أصله يكونن- بنون ساكنة بعدها نون مفتوحة- اجتمع ساكنان فحذفت الواو فأصبح يكنّ- بعد إدغام النونين- وزنه يفلن.
(تنابزوا) ، حذف منه إحدى التاءين أصله تتنابزوا.
(الألقاب) ، جمع لقب، اسم لما يسمّى به المرء- غير اسمه الأول- مشعرا برفعة أو ضعة، وزنه فعل بفتحتين ووزن ألقاب أفعال.
رابعا - البلاغة:
ــــــــــــــــــــــ
1- سرّ الجمع: لانه لم يقل رجل من رجل ولا امرأة من امرأة إيذانا بإقدام غير واحد من رجالهم وغير واحدة من نسائهم على السخرية واستفظاعا للشأن الذي كانوا عليه ولأن مشهد الساخر لا يكاد يخلو ممّن يتلهّى ويستضحك على قوله ولا يأتي ما عليه من النهي والإنكار فيكون شريك الساخر وتلوه في تحمّل الوزر وكذلك كل من يستطيبه ويضحك منه فيؤدى ذلك وإن أوجده واحد إلى تكثير السخرة وانقلاب الواحد جماعة وقوما.
2- التنكير: في قوله تعالى «لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ ... وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ» .
حيث نكّر القوم والنساء، لأن كلّ جماعة منهية، على التفصيل في الجماعات، والتعرض بالنهي لكلّ جماعة على الخصوص، ومع التعريف تحصيل النهي، لكن لا على التفصيل بل على الشمول، والنهي على التفصيل أبلغ وأوقع.
خامسا - سبب النزول:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ: قال الضحاك: نزلت في وفد بني تميم الذين تقدم ذكرهم في بيان سبب نزول الآية الأولى من هذه السورة، استهزءوا بفقراء الصحابة، مثل عمّار وخبّاب وابن فهيرة وبلال وصهيب وسلمان وسالم مولى أبي حذيفة وغيرهم، لما رأوا من رثاثة حالهم، فنزلت في الذين آمنوا منهم.
وقال مجاهد: هو سخرية الغني من الفقير. وقال ابن زيد: لا يسخر من ستر اللَّه عليه ذنوبه ممن كشفه اللَّه، فلعل إظهار ذنوبه في الدنيا خير له في الآخرة.
وقيل: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس عيّره رجل بأم كانت له في الجاهلية، فنكس الرجل استحياء، فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية.
وقيل: نزلت في عكرمة بن أبي جهل حين قدم المدينة مسلما، وكان المسلمون إذا رأوه قالوا: ابن فرعون هذه الأمة، فشكا ذلك إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فنزلت.
وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ: قال ابن عباس: إن صفيّة بنت حييّ بن أخطب أتت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقالت: يا رسول اللَّه، إن النساء يعيّرنني، ويقلن لي:
يا يهودية بنت يهوديّين! فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «هلا قلت: إن أبي هارون، وإن عمي موسى، وإن زوجي محمد» فأنزل اللَّه هذه الآية.
وقيل: نزلت في نساء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عيّرن أم سلمة بالقصر.
وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ: أخرج أصحاب السنن الأربعة عن أبي جبيرة بن الضحاك قال: كان الرجل منا يكون له الاسمان والثلاثة، فيدعى ببعضها، فعسى أن يكرهه، فنزلت: وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ قال الترمذي: حسن.
وأخرج الحاكم وغيره من حديث أبي جبيرة أيضا قال: كانت الألقاب في الجاهلية، فدعا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم رجلا منهم بلقبه، فقيل له: يا رسول اللَّه، إنه يكرهه، فأنزل اللَّه: وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ.
ولفظ أحمد عنه قال: فينا نزلت في بني سلمة: وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ قدم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة، وليس فينا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة، فكان إذا دعا أحدا منهم باسم من تلك الأسماء قالوا: يا رسول اللَّه، إنه يغضب من هذا، فنزلت
والخلاصة: لا مانع من تعدد وقائع النزول، فقد يكون كل ما ذكر سببا لنزول الآية، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
سادسا - المناسبة:
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
بعد أن بيّن اللَّه تعالى وأرشد إلى ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن مع اللَّه تعالى، ومع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ومع من يخالفهما ويعصيهما وهو الفاسق، بيّن ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن مع المؤمن ومع الناس كافة، من الامتناع عن السخرية، والهمز واللمز والتنابز بالألقاب. لانها من موجبات الشر التي تكون سبباً للضغائن والعداوات بين الافراد والجماعات
ويلاحظ سمو الترتيب الإلهي في سرد الآداب العامة في الموضوعات المذكورة، حيث رتّب اللَّه تعالى وقوع النزاع والاقتتال بين الطوائف والأفراد على أنباء الفاسقين، ثم نهى عن الأخلاق المرذولة التي ينشأ عنها النزاع، ثم أعلن بعد هذا وحدة الإنسانية في الأصل والمنشأ، كل ذلك من أجل الحفاظ على وحدة الأمة الإسلامية، وجعلها مثالا يحتذي في التعامل مع الأمم والشعوب الأخرى، لنشر الإسلام وإعلاء كلمة اللَّه في كل مكان.
ولكن للأسف خالف هذا الامر كثير من المنتسبين للعلم فضلا عن العامة فرموا الناس بالشرك والبدع والكفريات والفسقيات وغيرها من العظائم، فاللهم رحمتك بالامة.
سابعا - التفسير الاجمالي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في هذه الآية:
ينهى الله تعالى عن السخرية واحتقار الناس، والنهي يفيد التحريم بدليل قوله فيما بعد:" وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ "، فيا أيها المصدقون بالله ورسوله، لا يهزأ رجال من آخرين، فربما كان المهزوء به عند الله خيرا من المستهزئ أو الساخر، ولا تهزأ نساء من نساء أخريات، فلربما كانت المهزوء بها أفضل وأكرم عند الله من المستهزئة، ولا يطعن ولا يعب بعضكم بعضا بقول أو فعل أو إشارة، ولا تتداعوا بالألقاب التي يسوء الشخص سماعها، ساء الوصف الذي يوصف به الرجل: وهو الفسق والفجور، بعد اتصافه بالإيمان، فالإيمان فضيلة زاجرة عن ضده وهو الفسق والكفر، ومن لم يتب عما نهى الله عنه من هذه الأوصاف الثلاثة (وهي السخرية، واللمز أو التعييب، والتنابز بالألقاب) فهو من الظالمين أنفسهم وغيرهم، لأن الإصرار على المنهي عنه كفر وظلم.
ثامنا - التفسير التفصيلي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في هذه الاية أخلاق الإسلام وآدابه العالية أدّب اللَّه تعالى بها عباده المؤمنين وهي:
1- النهي عن السخرية بالناس، وهو احتقارهم وازدراؤهم والاستهزاء بهم:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ، عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ، وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ أي يا أيها المؤمنون بالله ورسوله لا يهزأ رجال من آخرين، فربما كان المسخور بهم عند اللَّه خيرا من الساخرين بهم، أو قد يكون المحتقر أعظم قدرا عند اللَّه تعالى وأحب إليه من الساخر منه المحتقر له، فهذا حرام قطعا، ذكر فيه علة التحريم أو النهي، كما قال بعضهم:
لا تهين الفقير علّك أن ... تركع يوما، والدهر قد رفعه
فقوله: عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ تعليل للنهي.
وقال صلّى اللَّه عليه وسلّم- فيما رواه الحاكم وأبو نعيم في الحلية عن أبي هريرة- «ربّ أشعث أغبر ذي طمرين [الطّمر: الثوب الخلق البالي] تنبو عنه أعين الناس، لو أقسم على اللَّه لأبرّه»ورواه أحمد ومسلم بلفظ: «رب أشعث مدفوع بالأبواب، لو أقسم على اللَّه لأبرّه» .
وبالرغم من أن النساء يدخلن عادة في الخطاب التشريعي مع الرجال، فقد أفردهن بالنهي هنا دفعا لتوهم عدم شمول النهي لهن، وأكد معنى النهي للنساء أيضا، وذلك بالأسلوب نفسه، فنص على نهي الرجال، وعطف بنهي النساء، بصيغة الجمع، لأن أغلب السخرية تكون في مجامع الناس، فقال: ولا يسخر نساء من نساء، فلعل المسخور منهن يكنّ خيرا من الساخرات.
ولا يقتصر النهي على جماعة الرجال والنساء، وإنما يشمل الأفراد، لأن علة النهي عامة، فتفيد عموم الحكم لعموم العلة.
أخرج مسلم وابن ماجه عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «إن اللَّه لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم»
فالتميز إنما يكون بإخلاص الضمير، ونقاء القلب، وإخلاص الأعمال لله عز وجل، لا بالمظاهر والثروات، ولا بالألوان والصور، ولا بالأعراق والأجناس.
2- النهي عن الهمز واللمز، أي التعييب بقول أو إشارة خفية:
وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ أي لا تلمزوا الناس، ولا يطعن بعضكم على بعض، ولا يعب بعضكم بعضا بقول أو فعل أو إشارة. وقد جعل اللَّه لمز بعض المؤمنين لمزا للنفس، لأنهم كنفس واحدة، فمتى عاب المؤمن أخاه، فكأنما عاب نفسه، وهذا مثل قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء 4/ 29] أي لا يقتل بعضكم بعضا.
أخرج أحمد ومسلم عن النعمان بن بشير عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «المؤمنون كرجل واحد، إن اشتكى رأسه اشتكى كله، وإن اشتكى عينه اشتكى كله» .
والهماز اللماز مذموم ملعون، كما قال تعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [الهمزة 104/ 1] . والهمز يكون بالفعل، واللمز يكون بالقول، وقد عاب اللَّه من اتصف بذلك في قوله: هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ [القلم 68/ 11] أي: يحتقر الناس ويهمزهم طاعنا بهم، ويمشي بينهم بالنميمة وهي اللمز بالمقال .
والفرق بين السخرية واللمز: أن السخرية احتقار الشخص مطلقا، على وجه مضحك بحضرته، واللمز: التنبيه على معايبه، سواء أكان على شيء مضحك أم غيره، وسواء أكان بحضرته أم لا، وعلى هذا يكون اللمز أعم من السخرية، ويكون من عطف العام على الخاص، لإفادة الشمول.
3- التنابز بالألقاب أي التداعي بالألقاب التي يسوء الشخص سماعها:
وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ أي لا يلقّب بعضكم بعضا لقب سوء يغيظه، كأن يقول المسلم لأخيه المسلم: يا فاسق، يا منافق، أو يقول لمن أسلم: يا يهودي أو يا نصراني، أو يقول لأي إنسان: يا كلب، يا حمار، يا خنزير، ويعزر المرء القائل ذلك بعقوبة تعزيرية. وقد نص العلماء على تحريم تلقيب الإنسان بما يكره، سواء أكان صفة له أم لأبيه أم لأمه، أم لكل من ينتسب إليه. والتنابز يقتضي المشاركة بين الاثنين، وعبر بذلك لأن كل واحد سرعان ما يقابل الآخر بلقب ما، فالنبز يفضي في الحال إلى التنابز، بعكس اللمز يكون غالبا من جانب، ويحتاج للبحث عن عيب ما يرد به.
ويستثني من ذلك: أن يشتهر بلقب لا يسوؤه، فيجوز إطلاقه عليه، كالأعمش والأعرج من رواة الحديث. أما الألقاب المحمودة فلا تحرم ولا تكره كما قيل لأبي بكر: عتيق، ولعمر: الفاروق، ولعثمان: ذو النورين، ولعلي:
أبو تراب ، ولخالد: سيف اللَّه، ولعمرو بن العاص: داهية الإسلام.
بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ أي ساء الوصف أن يسمى الرجل فاسقا أو كافرا أو زانيا بعد إسلامه وتوبته، أو أن يذكر بالفسوق بعد الدخول في الإيمان. والفسوق: هو التنابز بالألقاب كما كان أهل الجاهلية يفعلون بعد ما دخلوا في الإسلام وعقلوه. والمراد: ذم اجتماع صفة الفسوق بسبب التنابز بالألقاب مع الإيمان، وذلك تغليظ وتنفير شديد، حيث جعل التنابز فسقا، وهو تعليل للنهي السابق.
وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أي ومن لم يتب عما نهى اللَّه عنه من الأمور الثلاثة (السخرية، واللمز، والتنابز بالألقاب) فهو من الظالمين، بل هم لا غيرهم الظالمون أنفسهم، بسبب العصيان بعد الطاعة، وتعريض النفس للعذاب.
وسبب وصف العصاة بالظلم: أن الإصرار على المنهي كفر، إذ جعل المنهي كالمأمور، فوضع الشيء في غير موضعه.
والله أعلم وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وسلم
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى