اللؤلؤ المبروم، على متن العلامة ابن آجُرُّوم
صفحة 1 من اصل 1
اللؤلؤ المبروم، على متن العلامة ابن آجُرُّوم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل علم النحو مفتاحا للعلوم، وجعل القرآن الكريم عربيا واضح الرسوم، أشهد أن لا إله إلا هو الحي القيوم، وأشهد أن سيدنا محمدا رسوله ونبيه وسره المكتوم، صلى الله وسلم عليه ما أشرقت الشمس وتلألأت النجوم، وعلى آله وصحبه الأعلام أئمة كل مؤموم، ومن اقتدى واستن بهم إلى اليوم المعلوم، أما بعد:فهذا شرح متوسط باليسر موسوم، وتوضيح لما أشكل على العموم، للمتن المشهور بـ "الآجرومية" في علم النحو مفتاح كل العلوم، سميته: "اللؤلؤ المبروم، على متن العلامة ابن آجُرُّوم" واللهَ أسأل أن يجعل عملنا هذا خالصا لوجهه الكريم، وأن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح إنه سميع مجيب الدعوات.
وما قيامنا بهذا الأمر عن استحقاق تعليم، أو تقدم قدر وإرادة تفهيم، وإنما شاء الله عز وجل أن يكون أمامَ الناس أفقرُهم علمًا، وأقلهم منه نصيبًا، وأبعدهم عن حظوظ العلم قدرًا ، وما نحن إلا كما قال القائل :
أَسِيرُ خلف ركاب القوم ذا عَرجٍ ... مؤمِّلا جبر ما لاقيـتُ من عِـوج
فإن لحقت بهم من بعد ما سبقوا ... فكم لِرب السَّما في الناس من فرج
وإن ظللت بقفر الأرض منقطعًا ... فما على أعرج في ذاك من حرج
واعلم – رحمنا الله وإياك - أن علم النحو يعد من أركان اللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم، وجاءت بها السنة النبوية الشريفة، ولذلك فهو من الأركان الأساسية لفهم العلوم الشرعية، ولا بد لنا من معرفته لنفهم دلالات الكتاب والسنة وأقوال الصحابة حتى نكون على بينة من أمر ديننا الذي هو عصمة أمرنا، ومنهج حياتنا، ولله در القائل:
حفظ اللغات علينا ... فرض كفرض الصلاة
فليس يضبط ديـن ... إلا بحفـظ اللغـات.
ومعرفة علم النحو مقدمة على غيره من العلوم، إذ به تتبيّن أصول المقاصد بالدّلالة فيعرف الفاعل من المفعول، والمبتدأ من الخبر، ولولاه لجهل أصل الإفادة، وكان من حقّ علم اللّغة التّقدّم؛ لولا أنّ أكثر الأوضاع باقية في موضوعاتها لم تتغيّر؛ بخلاف الإعراب الدّالّ على الإسناد والمسند والمسند إليه، فإنّه تغير بالجملة ولم يبق له أثر، فلذلك كان علم النّحو مقدما على العلوم اللغوية الأخرى، إذ في جهله الإخلال بالتّفاهم جملة وليست كذلك في اللّغة، والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التّوفيق.
وأجل ما صُنف في علم النحو للمبتدئ؛ وفُتح به على المنتهي؛ "المقدمة الآجرومية" المباركة الميمونة، فقد عم نفعها المشرق والمغرب، وتلقاها بالقبول كل سالك وطالب، فدل ذلك على خلوص نية مؤلفها وصلاحه، خاصة وإنه قد ألفها تجاه الكعبة الشريفة، وكذا شمولها على مهمات النحو الضرورية لكل طالبيه، وقد اشتهرت وذاع صيتها بين الخاص والعام، وكفى بهذا شرفا لها بين الانام، كما لا يغفل الجانب المادي في ذلك، وهو طريقة التأليف، فإن هذه المقدمة امتازت عن الكتب النحوية الأخرى بأشياء :
منها: ما جعلها سهلة التناول بحيث تطعم كل قارئ في تحصيلها لأنها بضع ورقات فقط. ومنها: حسن ترتيبها، فإنها ألمت بأبواب النحو في تسلسل طبيعي من الكلام فأقسام الإعراب وعلاماته ثم المعرب من الفعل والاسم، لأن الغرض المهم من معرفة النحو، هو إعراب الكلام، وما عدا ذلك من المشاكل فإنما أشارت إليه إشارة خفيفة في ضمن هذه الأبواب، فلم تشوش به ذهن الطالب. ومنها: اعتمادها على القواعد الجلية والعلامات الظاهرة كما في تعريفها للاسم والفعل والإعراب ونحو ذلك، وإذا علمنا أن مدار النحو كله على معرفة الإعراب وإتقان أحكامه، علمنا مقدار أهمية هذا التحصيل وذكر العلامات مقسمة إلى حروف وحركات بعد ذكرها مجتمعة بحسب أنواع الإعراب..
فهذا هو ما جعلها كأحد التآليف المدرسية الناجحة التي روعي فيها نفسية الطفل وأصول التربية الحديثة بالتدرج من المحسوس إلى المعقول، ومن البسيط إلى المركب، ولذلك نراها كثيرا ما تستعمل حتى في المدارس العصرية اليوم، وكم وضع لها المدرسون العصريون من تمارين وجداول صرفية وأمثلة مما يدل على شدة عنايتهم بها ومزيد حرصهم عليها.
وقد اعتنى العلماء، بهذه المقدمة عناية كبيرة جدا فشرحوها ونظموها وحشوا على الجميع وأعربوها وكتبوا متممات لها ووضعوا تمارين عليها، الشيء الذي يفوت الحصر ولا يكاد يحصيه أحد.
ومن أشهر شروحها، وهو أول ما كتب عليها، شرح أبي عبد الله الشريف من أهل فاس، وهو شرح مبسوط يعتني بتفسير ألفاظها لفظا، ثم يذكر المعنى بوضوح تام، ثم يعرب ألفاظها إعرابا كاملا. ويظهر أن هذا الشرح كان له رواج كبير بين المتعلمين، ولذلك شرح الشيخ أحمد الدقون شواهده الشعرية. ومن شروحها المشهورة شرح الراعي النحوي الأندلسي المشهور، وهو شرح مبسوط أيضا كثير الفوائد. ومن شروحها المبسوطة كذلك شرح العلامة السوداني المشهور، وهو عامر بالشواهد والأبيات والفوائد العلمية، وعلى هذا الشرح حاشية للعلامة المهدي الوزاني طُبعا معا بفاس، ومن شروحها الواسعة المادة، الغزيرة الفائدة، شرح الشيخ علي بركة عالم تطوان المشهور، وهو في سفر كبير.
ومن شروحها المختصرة، شرح العلامة المكودي النحوي المغربي المشهور، وهو مطبوع ولم يقع عليه إقبال كما وقع على شرحه للألفية. ومن شروحها المتوسطة شرح الشيخ خالد الأزهري، وهو شرح مفيد وقع الإقبال عليه كثيرا، واقتصر طلابها على الدراسة به، وعليه حواش عديدة منها حاشية الشيخ أبي النجا المصري، ومنها حاشية الشيخ أحمد ابن الحاج الفاسي وهي كثيرة الفوائد مشهورة بين الطلبة، ومنها حاشية الشيخ إسماعيل الآبي الأزهري وكلها مطبوعة. ومن شروحها الشهيرة شرح الشيخ حسن الكفراوي وهو يعتني بإعرابها الكامل والطلبة يحبونه لأنه يدربهم على الإعراب. وعليه حاشية للحامدي طبعا معا بمصر. ومنها: شرح العلامة أحمد زيني مطبوع بمصر وهو مختصر جدا. ومنها: شرح العلامة أحمد البرهوني، ومنها: شرح الأستاذ الكحاك وهذان الأخيران مطبوعان في تطوان وصاحباهما معاصران. ومن الحواشي المباشرة على الآجرومية حاشية الشيخ عبد الله العشماوي بمصر.
ومن أغرب الشروح عليها شرح الشيخ أبي العباس بن عجيبة الصوفي المشهور، وهو شرح مزدوج يشبع الكلام على الناحية النحوية ثم يتبعه بالكلام على الأغراض الصوفية، وذلك بطريق الإشارة - أعني تنزيل كلام القوى على ألفاظ المقدمة - واقتصر على الناحية الإشارية منه العلامة الكوهن في شرح سماه: "منية الفقير المتجرد" وهو مطبوع. وذكر ابن عسكر في ترجمة الشريف ابن ميمون أن له على الآجرومية شرحا بالتوحيد وربما يكون ابن عجيبة نسج على منواله.
ومما كتب عليها في غير أسلوب الشرح، كتاب: "متمة الآجرومية" للعلامة الحطاب وهي بشكل محاذ ومكمّل، وعليها شرح للفاكهي وآخر للأهدل طبع الجميع بمصر، ومن ذلك أيضا كتاب التمارين العصرية، للعلامة أقصبي وهو جملة من التمارين والاختبارات تتنزل عليها قواعد العلم على حسب أبواب المقدمة، أما النظم فقد نظمها على بن حسن الشافعي على البحر الطويل كما نظمها كثيرون غيره.
هذا وقبل أن نبدأ في المقصود، فلابُدَّ لكل شارع في فن من الفنون، أو علم من العلوم؛ أن يتصوره قبل الشروع فيه، ليكون على دراية وبصيرة بما سيدرس، وإلا صار كمَن ركب متنَ عمياء، وخبَطَ خبْطَ ناقةٍ عشواء، ويحصل هذا التصور بمعرفة مبادئه العشرة، إذ أن لكل فن وعلم مبادئ عشرة ينبغي تعلمها قبل الشروع فيه، ، فإذا تعلمها طالب العلم قبل الشروع فيه ، كان على بصيرة تامة عند أخذ فروعه، وقد جمعها سيدي العلامة أحمد بن زكري (المتوفى:899 هـ) – رحمه الله - في أبيات فقال:
الحدُّ والموضوع ثمّ الواضعْ ... والِاْسم والِاْستمداد حكم الشارعْ
تصـوّرُ المسائـلِ الفضيلـةِ ... ونسبـةٍ فائـدةٍ جلـيـلـةِ
حقٌّ على طالبِ علمٍ أن يُحيطْ ... بفهمِ ذي العشْرةِ ميْزها يُنيطْ
أما حد النحو أي: تعريفه: فهو لغة: مصدرٌ على وزن فَعْلٍ بمعنى اسم المفعول أي المَنْحُوٌّ، من إطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول، كالخلق بمعنى المخلوق، والنسخ بمعنى المنسوخ، وجاء في اللغة لعدة معان أشهرها خمسة:
أحدها – القصد، يقال: ( نحوت نحوك ) أى قصدت قصدك.
ثانيها – المثل، يقال: ( مررت برجل نحوك ) أى مثلك .
ثالثها – الجهة، يقال: ( توجهت نحو البيت ) أى جهة البيت .
رابعها - المقدار، يقال: ( له عندى نحو ألف ) أى مقدار ألف .
خامسها - القسم، يقال: ( هذا على أربعة أنحاء ) أى أقسام .
ومن أشهر هذه المعاني تداولا، "القصد" وقد جمع هذه المعاني الخمسة من قال:
النحو في اللغة قصدٌ أصل ... وجهةٌ قدرٌ وقسمٌ مثل
ونقل الصبان معنى سادساً وهو البعض، نحو: ( أكلت نحو السمكة ) أى بعضها، وقيل : النحو في اللغة يأتي على أربعة عشر معنًى أشهرها ستةُ معانٍ مجموعة في قول الناظم :
قصدٌ ومثلٌ جهةٌ مقدارُ ... قسمٌ وبعضٌ قالهُ الأخيارُ
وجمعها سيدي أحمد بن كداه - رحمه الله – بامثلتها في بيتين من الطويل فقال:
نحونا بأنحاءٍ من الحاجِ نحوَكم ... تُناهز نحوَ الألف أو هي أكثرُ
فنلنا جميع الحاجِ لا النَّحوَ عاجلا ... فنحوكمُ يا شيخ بالنَّحوِ أجدرُ.
وقال الداودي من البسيط، مضيفا معنى سابعا لما تقدم وهو "النوع":
للنحو سبع معانٍٍ قد أتت لغة ... جمعتها ضمن بيت مفردٍ كـمُلا
قصد ومثل ومقدار وناحية ... نوع وبعض وحرف فاحفظ المثلا.
وأما تعريفه اصطلاحا: فهو العلم المستخرج بالمقاييس المستنبطة من الاستقراء كلام العرب، الموصلة إلى معرفة أحكام أجزائه التي ائتلف منها، قاله المبرد، (المتوفى: 285 هـ).
وإن شئت قلت: آلة قنونية تحفظ مراعاتها اللسان من الخطإ.
أو هو علم بقواعد يعرف بها أحكام أواخر الكلمات العربية في حال تركيبها من الاعراب والبناء وما يتبع ذلك.
وأما موضوعه: الكلمات الثلاث ، الاسم والفعل والحرف، يبحث عنها من حيث إعرابها وبنائها وإفرادها وتركيبها.
وأما واضعه: فهو أمير المؤمنين سيدنا علي كرم الله وجهه، فقد روى أبو القاسم الزجاجي، بإسناد رجاله ثقات في أماليه (1/238):
عن أبي الأسود الدؤلي [المتوفى: 67 هـ]، قال: دخلت على علي بن أبي طالب رضي الله عنه , فرأيته مطرقا متفكرا , فقلت: فيم تفكر يا أمير المؤمنين؟ قال: " إني سمعت ببلدكم هنا لحنا , فأردت أن أصنع كتابا في أصول العربية , فقلت: إن فعلت هذا أحييتنا وبقيت فينا هذه اللغة، ثم أتيته بعد ثلاث فألقى لي صحيفة فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، الكلام كله اسم، وفعل وحرف، فالاسم: ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى، والحرف ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل، ثم قال: تتبعه وزد فيه ما وقع لك، واعلم يا أبا الأسود أن الأسماء ثلاثة: ظاهر , ومضمر , وشيء ليس بظاهر ولا مضمر، وإنما تتفاضل العلماء في معرفة ما ليس بظاهر ولا مضمر، قال أبو الأسود: فجمعت منه أشياء وعرضتها عليه , فكان من ذلك حروف النصب , فذكرت منها , إن , وأن , وليت , ولعل , وكأن، ولم أذكر لكن , فقال لي: لم تركتها؟ فقلت: لم أحسبها منها، فقال: بل هي منها، فزدها فيها ".اهـ
وقيل: إن أبا الاسود الدؤلي دخل عليها أبوها في وقدة الحر بالبصرة فقالت له: "يا أبت, ما أشدُّ الحر! " رفعت "أشد" فظنها تسأله وتستفهم منه: أيّ زمان الحر أشد؟ فقال لها: "شهر ناجر". - يُرِيد شهر صفر الْجَاهِلِيَّة - فقالت: "يا أبت إنما أخبرتك ولم أسألك".
فأتى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، فقال يا أمير المؤمنين: ذهبت لغة العرب لما خالطت العجم، وأوشك إن تطاول عليها زمان أن تضمحل، فقال له: وما ذلك ؟ فأخبره خبر ابنته، فأمره فاشترى صحفا بدرهم وأملى عليه: الكلام كله لا يخرج عن اسم وفعل وحرف جاء لمعنى.
وهذا القول أول كتاب سيبويه ثم رسم أصول النحو كلها فنقلها النحويون وفرعوها، والخبر في الأغاني للأصفهاني بسنده إلى أبي الاسود الدؤلي (11/ 101) ، وفي هذا قال بعضهم:
نقل النحو إلينا الدؤلي ... عن أمير المؤمنين البطل
بدأ النحو علي وكذا ... ختم النحو ابن عصفور علي.
واسمه: علم النحو، من إطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول يعني المنحوَّ، أي: المقصود ، ثم بغلبة الاستعمال أطلق على النحو الخاص، و إلا فكل علم منحوٌّ يعني مقصود كما سُمِّي الفقه فقهًا، وقيل: إن سبب تسميته بذلك أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما أمر أبا الأسود الدؤلي أن يضعه وعلَّمه الاسم والفعل والحرف وشيئا من الإعراب قال له : " انح هذا النحو " .
واستمداده: من القرآن المتواتر وكذا الشاذ إن صح إسناده على الصحيح والحديث إذا روي بغير المعنى، أما إذا روي بالمعنى فالجمهور لا يستشهدون به، لأن بعض المحدثين قد يلحن، وقد نقل عن الليث وابن عدي والخطيب أنهم لحنوا، لذلك فالراجع عدم الاستشهاد به، ويستمد أيضا من كلام العرب نظما ونثرا.
وحكمه: فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن البعض، إلا من تصدى لتفسير كلام الله، وكلام رسوله – صلى الله عليه وسلم – فيكون في حقه فرض عين، لقوله - صلى الله عليه وسلم –: { من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار} وفي رواية: { من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخط} وقال أيضا: { من كذب علي متعمدا، فليتبوأ مقعده من النار.} اهـ والجاهل ملحق بالعامد في كثير من الاحكام.
ومسائله: مباحثه التي ستذكر فيه – إن شاء الله – ككون الفعلين - الماضي والامر- مبنيين، والفعل المضارع معربا، والفاعل مرفوعا، والمفعول منصوبا، ونحو ذلك.
وفضله: أنه علم شريف لتوقف فهم الكتاب والسنة عليه، وصونهما من اللحن والتحريف، وناهيك به شرفا، قال عمر - رضي الله عنه -: ''تعلَّموا العربية فإنها تزيد في المروءة'' (الجامع للخطيب (2/ 225)، وروي عنه أيضا أنه قال: "تعلموا النحو كما تتعلمون السنن والفرائض" .اهـ وكان أيوب السختياني يقول: "تعلموا النحو فإنه جمال للوضيع وتركه هجنة للشريف.
وقد ورد عن جماعة من السلف أنهم كانوا يضربون أولادهم على اللحن، وقيل قديما: النحو في الكلام كالملح في الطعام، وقال عبد الملك بن مروان: اللحن في المنطق أقبح من الجدري في الوجه، وقال الإمام الشافعى-رحمه الله تعالى-:"من تبَحَرَّ فى النحو اهتدى إلى كل العلوم" .اهـ وقال حماد بن سلمة: مثل الذي يطلب الحديث ولا يعرف النحو، كمثل الحمار عليه مخلاة لا شعير فيها.
ولإسحاق بن خلف البهراني من بحر الكامل:
النحو يصلح من لسان الألكن ... والمـرء تكرمه إذا لـم يلحن
وإذا طلبت من العلوم أجلّـها ... فأجلّـها منها مقيـم الألسـن
لحن الشريف يحطه عن قدره ... وتراه يسقط من لحاظ الأعين
وترى الدنئ إذا تكلم معـرباً ... نال النباهـة باللسان المعلـن
ما ورّث الآباء فيما ورّثـوا ... أبناءهـم مثل العلـوم فأتقـن.
فاطلب هديت ولا تكن مُتأبِّيا ... فالنحو زيـن العالـم المتفنـِّنِ
والنحو مثل الملح إن أَلقيتـه ... في كل صنفٍ من طعامٍ يحسنِ
وقال آخر:
النحو زين للفتى ... يكرمه حيث أتى
من لم يكن يعرفه ... فحقه أن يسكتا.
وقال آخر من البسيط:
النحو قنطرة إلى العلوم فهل ... يُجاز بحر على غير القناطــــير
إن النحاة أنـاس بـان مجدُهـمُ ... فـوق العباد جميعا بالمقـاديـر
أصل الفصاحة لا يخشون من أحد ... عند القراءة في أعلى المنابيـر
لو يعلم الطير ما في النحو من شرف ... غنت وأومت إليه بالمناقيـر
إن الكـلام بـلا نحـو يمـاثـلـه ... نبح الكلاب وأصوات السنانير.
وقال آخر من الكامل:
اِقتبسِ النحو فنعم المقتبـَسْ ... صاحبه مكرمٌ حيثُ جلَـسْ
يأخذ من كلّ العلوم ما نفسْ ... من عدم النحو عمى وانكبسْ
وكان لا ينطق إلا بالخـرسْ ... شتّان بين الحمار والفـرسْ
وقال آخر من البسيط:
النحو أفضل ما يتـلى ويقتبـسُ ... لأنه من كتـاب الله يلتمسُ
إذا الفتى عرف الاعراب كان له ... مهابة في الناس حوله جلسوا
لا ينطقـون حـذرا أن يلحنهـم ... كأن ما بهم من خوفه خرسوا
أيستـوي منا معرب وملتحن ... هل تستوي البغلة العرجاء والفرسُ.
ونسبته: التباين لسائر العلوم، إلا علوم اللغة العربية الأخرى فبينه وبينها العموم والخصوص الوجهي، فهو يشترك مع علوم اللغة في بعض المباحث، ويختص ببعض المباحث، وتختص هي أيضا ببعض المباحث ...
وفائدته: صيانة اللسان عن الخطأ في الكلام، ووسيلة لفهم الكتاب والسنة، ومفتاح لكل العلوم، ولهذا قال السيوطي:
النحو خير ما به المرء عني ... إذ كل علم ليس عنه يغتني
وقال آخر:
وبعد فالجاهل بالنحو افتقر ... إذ كل علم دونه له افتقر.
واعلم أن العلم إن كان عقليا أو ذوقيا لم يحتج الى نسبة قائله، لأن برهانه في نفسه، وشاهده معه، فلا يحتاج إلى معرفة قائله إلا من حيث الكمال، وأما إن كان نقليا، فلا بد من معرفة قائله لأنه موكول إلى أمانته، فمن اعتمد في نقله على من لا يعرف حاله، كان كالباني على غير أساس، ثم ما تركب منهما كالفقه والنحو، فإن كلا منهما منقول معقول، لكن يغلب فيه جانب النقل، فينبغي معرفة القائل لتطمئن إليه النفس، فنقول:
المؤلف هو:
العلامة المقرئ النحوي الشهير، أبو عبد الله محمد بن محمد بن داود الصنهاجي الفاسي عرف بـ(ابن آجُرُّوم) بفتح الهمزة الممدودة، وضم الجيم، والراء المشددة، وهي كلمة بربرية معناها "الفقير الصوفي" كما ذكره جميع من ترجم له من المؤخرين أو كتب على مقدمته من الشارحين. ولا يزال الأمازيغيون يستعملونها بهذا المعنى أو ما يقرب منه، لكن بلفظ أكرام، وتنطق "الكاف" عندهم بالجيم المصرية، وعلى كل حال فهي لقب تشريف عندهم وتقوم مقام السيد بالعربية، ويقال : إن جده داود هو أول من عرف بها.
وأصله من صنهاجة قرية قرب مدينة صفرو ببلاد المغرب، لكنه ولد بمدينة فاس بعدوة الأندلس منها عام اثنين وسبعين وستمائة (672)، وهو العام الذي توفي فيه ابن مالك الإمام النحوي المشهور، فقيل بعد ذلك : توفي نحوي وولد نحوي، ولعل هذا الاقتران إنما لوحظ بسبب جريان العمل في البلاد العربية منذ قرون بدراسة النحو في مقدمة ابن آجروم أولا ثم في ألفية ابن مالك ثانيا، فكانوا يبحثون عن ترجمة المؤلفين، فوقع الاهتداء إلى أن عام وفاة ابن مالك هو عام ولادة ابن آجروم، فقيل: هذا القول.
ونقل السيوطي في بغية الوعاة ما رآه بخط ابن مكتوم في تذكرته، وهو من معاصري المترجم له، أنه قال: محمد بن محمد الصنهاجي أبو عبد الله من أهل فاس، يعرف بـ(أكرام)، [الكاف بالجيم المصرية كما سبق] نحوي مقرئ، وله معلومات من فرائض وحساب وأدب بارع، وله مصنفات وأراجيز في القراءات وغيرها، وهو مقيم بفاس، يفيد أهلها من معلوماته المذكورة؛ والغالب عليه معرفة النحو والقراءات؛ وهو إلى الآن حي؛ وذلك في سنة تسع عشرة وسبعمائة. انتهى.
ووصفه شراح مقدمته كالمكودي والراعي وغيرهما بالإمامة في النحو، والبركة والصلاح، ويشهد بصلاحه عموم نفع المبتدئين بمقدمته.
وقال ابن القاضي في "الجذوة" : إنه كان من مؤدبي أهل مدينة فاس.اهـ فيظهر من هذا إنه بعد التحصيل وفراغه من القراءة انتصب للتعليم والإقراء بجامع الأندلس على ما في دائرة المعارف الإسلامية، ولا غرو فقد كانت سكناه بعدوة الأندلس، وقد أخذ عن أبي حيان النحوي صاحب التفسير الكبير المعروف بالبحر المحيط فإنهم ذكروا أن المترجم أخذ عنه بمصر في طريقه إلى الحج، وقد درس بفاس طبعا ولم نقف على أحد ممن ذكر أسماء شيوخه إلا ما تقدم، وأخذ عنه جماعة من الأئمة بفاس كالشيخ أبي العباس أحمد بن محمد بن شعيب الجزنائي، والأستاذ الفقيه النحوي الصالح أبي محمد عبد الله بن عمر الوانغيلي الضرير، والقاضي أبي عبد الله محمد بن عبد المهيمن الحضرمي، والفقيه الأستاذ المقرئ الأعرف أبي العباس أحمد بن محمد بن حزب الله الخزرجي. وممن أخذ عنه أيضا ولداه الأستاذ الأثير العالم الكبير أبو محمد عبد الله وبرسمه وضع والده المقدمة... والأستاذ المحقق الناظم الناثر أبو عبد الله محمد المدعو بـ"منديل"، وذكر السيوطي أنه رأى في تاريخ غرناطة أن محمدا بن علي بن عمر الغساني النحوي قرأ عليه بفاس.
وقد وفقه الله إلى الجمع بين المذهبين الكوفي والبصري قال الشيخ ابن عجيبة في شرحه على الآجرومية عند تعريفه بالمؤلف : "وتمهر في علم العربية فكان يجتهد فيها لا يتقيد بمذهب البصريين ولا مذهب الكوفيين بل يميل مع الحق أينما ظهر له" .اهـ. وهذا هو عين الصواب وهو مما مهد لمقدمته وجعلها تنتشر هذا الانتشار العظيم بين الناس.
وللمترجم - رحمه الله- من غير المقدمة، شرح على (حرز الأماني) وهي المنظومة المعروفة بالشاطبية في القراءات، لأنه كان ذا قدم راسخة في هذا العلم أخذه الناس عنه وانتفعوا به.
وكانت وفاته - رحمه الله - يوم الأحد بعد الزوال لعشر بقيت من شهر صفر الخير عام ثلاث وعشرين وسبعمائة (723 هـ)، ودفن من الغد بعد صلاة الظهر بباب الجيزيين وهو المعروف اليوم بباب الحمراء عن يمين باب الفتوح. كذا لجميع من ترجموه. وفي حاشية العلامة ابن الحاج أنه توفي يوم الاثنين، ولعله اعتبر يوم الدفن فقط والعلم عند الله، وإلى عام وفاته أشار بحروف الجمل [ (ج/3) – (ك/20) – (ذ/700) ] من قال:
مات ابن داود بن آجُرُّوم ... في عام جَكْذٍ غاب بالعلوم
مولـده وفاتـه بفـاس ... وعمره خمسون عند الناس
وزاد واحدا على الخمسين ... قـدسـه الله بعليـيـن
وصلى الله وسلم على سيدنا ومولانا محمد، وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
مواضيع مماثلة
» اللؤلؤ المبروم، على متن العلامة ابن آجُرُّوم (2)
» دروس صوتية في شرح صحيح البخاري، للشيخ العلامة المحدث محمد بن العلامة علي الولوي، مباشرة من موقعه الخاص
» مكتبة العلامة محمد المختار السوسي للتحميل
» تحميل كتاب طبقات العلامة الحضيكي - رضي الله عنه
» ترجمة مختصرة لشيخنا العلامة الأصولي أبي الطيب مولود السريري (حفظه الله)
» دروس صوتية في شرح صحيح البخاري، للشيخ العلامة المحدث محمد بن العلامة علي الولوي، مباشرة من موقعه الخاص
» مكتبة العلامة محمد المختار السوسي للتحميل
» تحميل كتاب طبقات العلامة الحضيكي - رضي الله عنه
» ترجمة مختصرة لشيخنا العلامة الأصولي أبي الطيب مولود السريري (حفظه الله)
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى