إخبار القاصي والداني بأدلة جواز الذكر الجماعي
صفحة 1 من اصل 1
إخبار القاصي والداني بأدلة جواز الذكر الجماعي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله الذي جعل ذكره عدة للمتقين يتوصلون بها إلى خيري الدنيا والدين، وجنة واقية للمؤمنين عرض الشياطين، وشر إخوانهم المتمردين من طوائف الخلق أجمعين، والصلاة والسلام على خير البشر الذي أنزل عليه {ولذكر الله أكبر} فبين للعباد من فضائل الأذكار وما فيها من المنافع الكبار، والفوائد ذوات الأخطار، ما ملأ الأسفار وتناقلته ألسن الرواة في جميع الأقطار، وكان به العمل في جميع الأعصار، وعلى آله الطاهرين وأصحابه الهادين المهتدين، أما بعد:
بِكَ اسْتَعَنْتُ إِلهِي عَاجِزاً فَأَعِنْ ... أَبْغِي رِضَاكَ فَأَسْعِفْنِي بِأَطْيَبِهِ
فَإِنْ تُعِنْ ثَعْلَباً يَسْطُو عَلَى أَسَدٍ ... أَوْ تَخْذِلِ اللَّيْثَ لاَ يَقْوَى لِثَعْلَبِهِ
وَإِنَّنِي عَالِمٌ ضَعْفِي وَ لاَ عَمَلٌ ... عِنْدِي يُفِيدُ وَلاَ عِلْمٌ أَصُولُ بِهِ
وَرَأْسُ مَالِيَ جَاهُ المُصْطَفَى فَبِهِ ... أَدْعُوكَ رَبِّيَ أَيِّدْنِـي لَهُ وَبِـهِ
[بحر البسيط]
إن من أعظم السنن والمندوبات، هو ذكر الله تعالى آناء الليل وأطراف النهار، وهذا أمر انعقدت كلمة أهل العلم على الترغيب فيه، والحث عليه، إلا ما كان من بعض أهل العلم من تخصيص سنية الذكر على الهيئة الإفرادية دون الاجتماعية، حيث أنهم زعموا عدم مشروعيتها لعدم ورودها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والسلف الصالح رضوان الله عليهم، واستدلوا بالحديث الضعيف الذي أخرجه الدارمي عن ابن مسعود، وزعموا أن حديث {كل بدعة ضلالة} يشمل كل ما أحدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان له أصل في الشرع يرجع إليه، فوقعوا في التناقض لأن بعض الصحابة والتابعين قد أحدثوا بعض البدع واستحسنوها، انظر الامثلة على ذلك في كتاب (إتقان الصنعة في تحقيق معنى البدعة) للحافظ الغماري.
ولخصوص هذه المسألة كتبت بحثي هذا، إسعافا للطالبين، ونصرة للمتعبدين برد طعن الخاملين، وإحقاقا للحق، وجلاء للصواب، وبيانا لمشروعية الاجتماع على الذكر بصوت واحد إذا لم يؤدي ذلك إلى محذور شرعي، فأقول:
إن الاجتماع على الذكر بلسان واحد جائز شرعا، لورود عدة نصوص تدل على استحباب الاجتماع على الذكر منها:
ما أخرجه مسلم قال (2701) حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا مرحوم بن عبد العزيز، عن أبي نعامة السعدي، عن أبي عثمان، عن أبي سعيد الخدري، قال: خرج معاوية على حلقة في المسجد، فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله، قال آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك، قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل عنه حديثا مني، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه، فقال: «ما أجلسكم؟» قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام، ومن به علينا، قال: «آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟» قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك، قال: «أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكنه أتاني جبريل فأخبرني، أن الله عز وجل يباهي بكم الملائكة»
صحيح مسلم (4/ 2075)اهـ وفي لفظ النسائي:" ندعو الله" .
فقول معاوية: " خرج على حلقة من أصحابه" دليل على اجتماعهم لأن حلقة القوم هي الجماعة من الناس مستديرين كحلقة الباب وغيرها. والتحلق، تفعل منها: وهو أن يتعمدوا ذلك. (لسان العرب (10/62)
" وقولهم: "جلسنا نذكر الله" بلفظ الجمع ظاهر على أنهم يذكرون جماعة بلسان واحد، ويشهد لهذا ما رواه مسلم عن الأغر أبي مسلم، أنه قال: أشهد على أبي هريرة وأبي سعيد الخدري أنهما شهدا على النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يقعد قوم يذكرون الله عز وجل إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده» ، صحيح مسلم (4/ 2074)
وفي لفظ الترمذي:" ما من قوم يذكرون الله ... الحديث".اهـ
وحديث ابن عباس رضي الله عنهما: «أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة، كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم» وأنه قال: قال ابن عباس: «كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك، إذا سمعته». صحيح مسلم (1/ 410).
قلت: هذا الحديث واضح في أنهم كانوا يذكرون بصوت مرتفع بلسان واحد، لأنه لو كان كل واحد يذكر برفع صوته لشوش على غيره، وهذا منهي عنه لحديث أبي سعيد «ألا إن كلكم مناج ربه، فلا يؤذين بعضكم بعضا، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة»{ سنن أبي داود (2/ 38).
فدل على أنهم اشتركوا في الذكر بصوت واحد حتى لا يشوش بعضهم على بعض، ويشهد أيضا لهذا أيضا ما رواه البخاري عن جندب بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اقرءوا القرآن ما ائتلفت قلوبكم، فإذا اختلفتم فقوموا عنه» صحيح البخاري (6/ 198) فهذا الحديث عام يشمل التلاوة والمعنى.
وفي صحيح مسلم
25 - (2689) حدثنا محمد بن حاتم بن ميمون، حدثنا بهز، حدثنا وهيب، حدثنا سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " إن لله تبارك وتعالى ملائكة سيارة، فضلا يتتبعون مجالس الذكر، فإذا وجدوا مجلسا فيه ذكر قعدوا معهم، وحف بعضهم بعضا بأجنحتهم، حتى يملئوا ما بينهم وبين السماء الدنيا، فإذا تفرقوا عرجوا وصعدوا إلى السماء، قال: فيسألهم الله عز وجل، وهو أعلم بهم: من أين جئتم؟ فيقولون: جئنا من عند عباد لك في الأرض، يسبحونك ويكبرونك ويهللونك ويحمدونك ويسألونك، قال: وماذا يسألوني؟ قالوا: يسألونك جنتك، قال: وهل رأوا جنتي؟ قالوا: لا، أي رب قال: فكيف لو رأوا جنتي؟ قالوا: ويستجيرونك، قال: ومم يستجيرونني؟ قالوا: من نارك يا رب، قال: وهل رأوا ناري؟ قالوا: لا، قال: فكيف لو رأوا ناري؟ قالوا: ويستغفرونك، قال: فيقول: قد غفرت لهم فأعطيتهم ما سألوا، وأجرتهم مما استجاروا، قال: فيقولون: رب فيهم فلان عبد خطاء، إنما مر فجلس معهم، قال: فيقول: وله غفرت هم القوم لا يشقى بهم جليسهم "اهـ متفق عليه.
قال الحافظ ابن حجر: وفي الحديث فضل مجالس الذكر والذاكرين ، وفضل الاجتماع على ذلك ، وأن جليسهم يندرج معهم في جميع ما يتفضل الله تعالى به عليهم إكراما لهم ولو لم يشاركهم في أصل الذكر. فتح الباري (11/212).
قلت: "لفظ" (يذكرون ويدعون ويسبحون ويهللون ويتلون ويمجدون) كلها بواو الجمع، ولم يرد في حديث واحد من هذه الاحاديث التصريح بالإفراد، ولو كان المقصود هو الإفراد، لقال عليه الصلاة والسلام: يذكر كل واحد منهم، أويدعو كل واحد منهم أويسبح كل واحد منهم إلخ ... وقد أوتي عليه الصلاة والسلام جوامع الكلم.
قواعد أصولية يجب مراعتها:
ولتجلية المسألة لعدم وضوحها عند البعض، ومخالفة بعضهم قواعد الاستدلال نقول:
قد تأول بعضهم هذه الاحاديث بحمل (يتلون يسبحون يهللون) على ذكر الواحد، من باب إطلاق الجمع وإرادة الواحد، وهو أسلوب من أساليب العرب في الكلام مشهور،كنحو قوله تعالى {فعقروها}[الشمس:14] وإنما العاقر واحد.
فالجواب إن قوله:" يتلون" حقيقة في التلاوة الجماعية، وكذا يسبحون ويهللون في الذكر الجماعي، وحمله على الافراد والواحد من باب المجاز، وحمل اللفظ على حقيقته أولى من حمله على المجاز، كما هو مقرر في علم الاصول.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن في حمل قوله " يتلون ويذكرون" على الافراد دون الجمع، استنباط معنى من النص يعود عليه بالبطلان، كما قال الفقيه الهيتمي ، والشيخ المناوي ، وهو ممتنع، إذ القاعدة المتقررة عند الفقهاء أن : " الاستنباط من النص بما ينعكس عليه بالتغيير مردود"، أو بعبارة أخرى :" الشيء يعتبر ما لم يعد على موضوعه بالإبطال والنقض" .
قال العلامة ابن الملقن رحمه الله تعالى :" المعنى المستنبط إذا عاد على النص بإبطال مردود عند جميع الأصوليين، فإن عاد بالتخصيص ففيه نظر، كذا قاله الشيخ تقي الدين، وقال غيره: إنه مردود أيضا عند جميعهم " .
ولو فرضنا جدلا أنه لم يرد دليل بخصوص هذه المسألة، وعلى فرض أنا أهملنا دلالة العام في هذا المقام، فإن ذلك لا ينفي شرعية هذا الفعل، إذ غاية ما فيه كونه اجتماعا، والاجتماع ليس محرما في حد ذاته، فكيف إذا ضم إليه تحصيل طاعة، مثل التلاوة والذكر والدعاء.
وكذلك من المعلوم بالضرورة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل جميع المباحات، لأنها كثيرة، لا يستطيع بشر أن يستوعبها عدا، فضلا عن أن يتناولها.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان زاهدا متقللا، ويترك ما زاد على ذلك.
فمن زعم تحريم شيء بدعوى [أن] النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله فقد ادعى ما ليس عليه دليل، وكانت دعواه مردودة.
وفي الصحيحين عن خالد بن الوليد أنه دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم بيت ميمونة، فأتى بضب محنوذ فأهوى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده فقيل: هو ضب يا رسول الله فرفع يده، فقلت: أحرام هو يا رسول الله؟ فقال: "لا ولكن لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه" قال خالد: فاجتررته فأكلته، والنبي صلى الله عليه وسلم ينظر.
وفي الحديث دليل للقاعدة الأصوليه: أن ترك الشيء، لا يقتضى تحريمه قد يقال: سؤال خالد، يدل على خلاف القاعدة. وهو أن الترك يقتضي التحريم وقد استدل به بعضهم لذلك.
فيقال في جوابه: لما رأى خالد اعراض النبي صلى الله عليه وسلم عن الضب بعد ما أهوى إليه ليأكل منه، حصل عنده شبهة في تحريمه، فلذلك سأل. وكان جواب النبي صلى الله عليه وسلم له، مؤيدا للقاعدة، ومؤكدا لعمومها في أن ترك الشيء ولو بعد الإقبال عليه لا يفيد تحريمه وفي الحديث دليل أيضا على أن استقذار الشيء لا يحرمه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم استقذر الضب وعافه، ولم يحرمه.
ومن المعلوم ايضا بالضرورة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل جميع المندوبات، لاشتغاله بمهام عظام، استغرقت معظم وقته: كتبيلغ الدعوة، ومجادلة المشركين والكتابين، وجهاد الكفار، لحماية بيضة الإسلام، وعقد معاهدات الصلح والأمان والهدنة وإقامة الحدود، وإنفاذ السرايا للغزو وبعث العمال بجباية الزكاة، وتبليغ الأحكام، وغير ذلك مما يلزم لتأسيس الدوله الإسلامية، وتحديد معالمها، بل ترك صلى الله عليه وسلم بعض المندوبات عمدا، مخافة أن تفرض على أمته، أو يشق عليهم إذا هو فعله.
ولأنه صلى الله عليه وسلم اكتفى بالنصوص العامة الشاملة للمندوبات بجميع أنواعها منذ جاء الإسلام، إلى قيام الساعة، مثل: {وما تفعلوا من خير يعلمه الله} {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} {وافعلوا الخير لعلكم تفلحون} {ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا} {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره} وجاءت الأحاديث النبوية، على هذا المنوال، وسنذكر بعضها بحول الله تعالى فمن زعم في فعل خير مستحدث، أنه بدعة مذمومة، فقد أخطأ وتجرأ على الله ورسوله حيث ذم ما ندب [الله ورسوله] إليه، في عموميات الكتاب والسنة.
وأما ما يقول بعضهم من أن حديث " كل بدعة ضلالة"، عام فهذا غلط، قال النووي في شرحه: قوله صلى الله عليه وسلم: "وكل بدعة ضلالة" هذا عام مخصوص والمراد غالب البدع قال أهل اللغة: هي كل شيء عمل غير مثال سابق. قال العلماء البدعة خمسة أقسام واجبة ومندوبة ومحرّمة ومكروهة فمن الواجبة نظم أدلّة المتكلمين، للرّد على الملاحدة والمبتدعين وشبه ذلك ومن المندوبة تصنيف كتب العلم وبناء المدارس والربط وغير ذلك. ومن المباح [التبسّط] في ألوان الأطعمة وغير ذلك. والحرام والمكروه ظاهران فإذا عرف ما ذكرته، علم أن الحديث من العام المخصوص، وكذا ما أشبهه من الأحاديث الوارده، ويؤيدها قول عمر رضي الله عنه نعمة البدعة، ولا يمنع من كون الحديث [عام مخصوص] قوله: "كل بدعة"، مؤكدا بـ"كل"، بل يدخله التخصيص مع ذلك كقوله تعالى: {تدمر كل شيء} اهـ.".اهـ
وقال الحافظ بن رجب في شرحه:
"والمراد بالبدعة ما أحدث مما لا أصل له في الشريعه يدل عليه، وأما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه فليس ببدعة شرعا، وإن كان بدعة لغة" اهـ.
وقال الحافظ بن حجر :
"والمحدثات بفتح الدال جمع محدثه، والمراد بها ما أحدث وما ليس له أصل في الشرع، ويسمى في عرف الشرع بدعة، وما كان له أصل يدل عليه الشرع، فليس ببدعة، فالبدعة في عرف الشرع مذمومة، بخلاف اللغة، فإن كل شيء أحدث على غير مثال، يسمى بدعة سواء كان محمودا او مذموما اهـ.
وروى أبو نعيم عن ابراهيم بن الجنيد، قال: سمعت الشافعي يقول: البدعة بدعتان: بدعة محمودة، وبدعة مذمومة، فما وافق السنة فهو محمود وما خالف السنة فهو مذموم.
وروى البيهقي في مناقب الشافعي عنه، قال: المحدثات ضربان: ما أحدث مما يخالف كتابا أو سنةً أو أثرا أو إجماعا، فهذه بدعة الضلالة.
قال الشيخ الإمام المجمع على إمامته وجلالته وتمكنه من أنواع العلوم وبراعته أبو محمد عبد العزيز بن عبد السلام رحمه الله ورضي عنه، في ءاخر كتاب القواعد: البدعة منقسمة إلى واجبة ومحرمة ومندوبة ومكروهة ومباحة قال: والطريق في ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة، فإن دخلت في قواعد الإيجاب، فهي واجبة، أو في قواعد التحريم فمحرمة، أو الندب، فمندوبة، أو المكروهة فمكروهة، أو المباح فمباحة.
قلت: بهذه القواعد استنبط الحفاظ والائمة استحباب الاجتماع على الذكر .
وهذه أقوالهم في شرحهم لحديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تعالى، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده». صحيح مسلم (4/ 2074).
قال الامام النووي:
" وفي هذا دليل لفضل الاجتماع على تلاوة القرآن في المسجد وهو مذهبنا ومذهب الجمهور وقال مالك يكره وتأوله بعض أصحابه".
(شرح النووي على مسلم (17/ 21)
وقال المناوي:
"وفيه [ أي الحديث] رد على مالك -رحمه الله تعالى- حيث كره الاجتماع لنحو قراءة وذكر، وحمل الخبر على أن كلا منهم كان مع الاجتماع يقرأ لنفسه منفردا، وفيه استنباط معنى من النص يعود عليه بالإبطال، إذ لا اجتماع حينئذ" .
فيض القدير للمناوي (5/409).
ويقول العلامة الفقيه الهيتمي رحمه الله :
" فيه – أي الحديث – فضيلة الاجتماع على تلاوة القرآن والذكر في المسجد، وهو مذهب الجمهور" . فتح المبين (ص:259).
ويقول العلامة الصنعاني رحمه الله تعالى :
" دل الحديث على فضيلة مجالس الذكر والذاكرين، وفضيلة الاجتماع على الذكر" .
وقال الجلال السيوطي رحمه الله تعالى:
"ولا بأس باجتماع الجماعة في القراءة" . الإتقان في علوم القرآن،للسيوطي (1/233).
وقال الحافظ السخاوي رحمه الله تعالى :
" الاجتماع لتلاوة كتاب الله عز وجل في الزوايا وما أشبهها من الأماكن المعدة لذلك وشبهه، وكذا في الأماكن المباحة، بل والمملوكة بإذن المالك في كل وقت من ليل أو نهار حتى في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها أمر مستحب.
وقد صح قوله صلى الله عليه وسلم: " ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله،ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده".
والمنع من ذلك لا وجه له، بل الإحسان إلى هذه الطائفة والاهتمام بشأنها بالإطعام وغيره من أنواع الإكرام مطلوب ، نعم إن كان هناك أحد من المصلين أو قارئ آخر غيرهم فيستحب عدم المبالغة في الصوت خشية التغليط.
وإذا علم ذلك فيقال للمانع: أنت مطالب بالدليل على ما قلت، فإن ذكر مقتضيا لذلك نُظِرَ فيه، وإن عجز دل عجزه على أنه لم يحقق ما قال، ويعزر حينئذ على القول بالهوى" . الأجوبة المرضية فيما سئل السخاوي عنه (2/772-773).
أقوال أئمتنا المالكية في حكم الذكر الجماعي والدعاء بعد الصلاة:
قال العلامة الدرديرفي الشرح الكبير: (و) جاز (رفع صوت مرابط) وحارس بحر (بالتكبير) في حرسهم ليلا ونهارا؛ لأنه شعارهم، ومثله رفعه بتكبير العيد وبالتلبية، وكذا التهليل والتسبيح الواقع بعد الصلوات الخمس أي من الجماعة لا المنفرد، والسر في غير ذلك أفضل ووجب إن لزم من الجهر التشويش على المصلين أو الذاكرين. الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي (2/ 182).
وقال النفراوي: قال القرافي: كره مالك وجماعة من العلماء لأئمة المساجد والجماعات الدعاء عقب الصلوات المكتوبة جهرا للحاضرين، فيحصل للإمام بذلك نوع من العظمة بسبب نصب نفسه واسطة بين الرب وعبده من تحصيل مصالحهم على يديه من الدعاء، ثم قال ابن ناجي: قلت وقد استمر العمل على جوازه عندنا بإفريقية، وكان بعض من لقيته يصرح بأن الدعاء ورد الحث عليه من حيث الجملة.
قال تعالى: {ادعوني أستجب لكم} [غافر: 60] لأنه عبادة فلذا صار تابعا فعله بل الغالب على من ينصب نفسه لذلك التواضع والرقة فلا يهمل أمره بل يفعل، وما كل بدعة ضلالة، بل هو من البدع الحسنة، والاجتماع فيه يورث الاجتهاد فيه والنشاط، وأقول: طلب ذلك في الاستسقاء ونحوه شاهد صدق فيما ارتضاه ابن ناجي. النفراوي: الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني (1/ 214)
وقال ابن بطال: (وسمعتهم يصرخون بهما) [أي بعد الظهر والعصر بالتلبية] إنما سمع الذين قرنوا خاصة لثبوت الإفراد .(شرح صحيح البخارى لابن بطال (4/ 221).
فقوله: سمع الذين قرنوا أي لبوا بصوت واحد.
وقال مفتي المالكية العلامة ابن عرفة - رحمه الله – في المعيار المعرب:
"والله حسيب أقوام ظهر بعضهم ولا يعلم له شيخ ، ولا لديهم مباد ئ العلم الذي يفهم به كلام العرب والكتاب والسنة، يفتون في دين الله بغير نصوص السنة"
ومما ترجع إليه هذه الأجوبة لتخريج هذا العرف:
- استناده لأحاديث منها ما روى الحاكم في المستدرك من حديث حبيب بن مسلمة الفهري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يجتمع قوم مسلمون يدعو بعضهم ويؤمن بعضهم إلا استجاب الله دعاءهم"
- أن ذلك من باب التعاون على البر والتقوى (الدعاء والذكر) على أصلهما المشروع - تحفيظ هذه الأدعية والأذكار ، وبعض السور لعموم الناس وخاصة الأميين.
- يفرق في هذا العمل بين اعتقاد أنه من سنن الصلاة وتوابعها ومكملاتها فيبدع معتقد ذلك، وبين اعتقاد أ نه دعاء بإثر الصلاة منفصل عنها، وأن الصلاة انتهت بالتسليم منها، وهذا هو معتقد الناس، ولا وجه لإنكار ذلك أو تبديعه.
وأما ما رو ي عن الإمام مالك رحمه الله في كراهة الاجتماع للدعاء عقب الصلاة، فإنها كراهة مذهبية تزول بزوال دواعيها[، كما أجيب عن ذلك بأجوبة أخرى كما نقل النفراوي.أهـ
وقال أيضا: "وما سمعت من ينكره الاجاهل غير مقتدي به" حاشية ابن الحاج ص(280).
وقد رجح العلامة المواق ما ذهب اليه النووي من الاستحباب فقال: قال:محيي الدين النووي في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ما اجتمع قوم يتلون كتاب الله» الحديث.
فيه جواز قراءة القرآن بالإدارة وهو مذهبنا ومذهب الجمهور وكرهه مالك وتأول ذلك بعض أصحابنا ابن رشد: إنما كرهه مالك لأنه أمر مبتدع ولأنهم يبتغون به الألحان على نحو ما يفعل في الغناء فوجه المكروه في ذلك بين.
المازري: وظاهر الحديث يبيح الاجتماع لقراءة القرآن في المساجد، وإن كان مالك قد قال بالكراهة لنحو ما اقتضى هذا الظاهر جوازه.
ولعله لما صادف العمل لم يستمر عليه كره إحداثه وكان كثيرا ما يترك بعض الظواهر بالعمل.
وقال عز الدين بن عبد السلام في قواعده: من العجب العجيب أن يقف المقلد على ضعف مأخذ إمامه وهو مع ذلك يقلده كأن إمامه نبي أرسل إليه وهذا نأي عن الحق وبعد عن الصواب لا يرضى به أحد من أولي الألباب، بل تجد أحدهم يناضل عن مقلده ويتحيل لدفع ظواهر الكتاب والسنة ويتأولها وقد رأيناهم يجتمعون في المجالس فإذا ذكر لأحدهم خلاف ما وطن عليه نفسه تعجب منه غاية التعجب لما ألفه من تقليد إمامه حتى ظن أن الحق منحصر في مذهب إمامه، ولو تدبر لكان تعجبه من مذهب غيره.
فالبحث مع هؤلاء ضائع مفض إلى التقاطع والتدابر من غير فائدة يجديها، فالأولى ترك البحث مع هؤلاء الذين إذا عجز أحدهم عن تمشية مذهب إمامه قال: لعل إمامي وقف على دليل لم أقف عليه، ولا يعلم المسكين أن هذا مقابل بمثله ويفصل لخصمه ما ذكره من الدليل الواضح.
فسبحان الله ما أكثر من أعمى التقليد بصره حتى حمله على مثل ما ذكرته، وفقنا الله لاتباع الحق أينما كان وعلى لسان من ظهر، انتهى نصه.
التاج والإكليل لمختصر خليل (2/ 365).
وقال مالك في جواز التكبير الجماعي دبر الصلوات في أيام التشريق:
" الأمر عندنا أن التكبير في أيام التشريق دبر الصلوات وأول ذلك تكبير الإمام والناس معه". اهـ قال الزرقاني:
احتج بالعمل، لأنه لم يرو في ذلك حديث. شرح الزرقاني على الموطأ (2/ 548).
قال العلامة ابن ناجي: افترق الناس بالقيروان فرقتين بمحضر أبي عمران الفاسي وأبي بكر بن عبد الرحمن، فإذا فرغت إحداهما من التكبير وسكتت أجابت الأخرى، فسئلا عن ذلك فقالا: إنه لحسن، ثم قال: قلت واستمر عمل الناس عندنا على ذلك بأفريقية بمحضر غير واحد من أكابر الشيوخ اهـ، ولا يشكل على استحسانهما فعله جماعة كون ذلك بدعة؛ لأن البدعة قد تكون حسنة. الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني (1/ 273)
قال ميارة:وحاصل ما انفصل عنه الإمام ابن عرفة والغبريني أن ذلك [أي الدعاء عقب الصلاة] إن كان على نية أنه من سنن الصلاة أو فضائلها فهو غير جائز، وإن كان مع السلامة من ذلك فهو باق على حكم أصل الدعاء والدعاء عبادة شرعية فضلها من الشريعة معلوم عظمه اهـ المراد منه. حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني (1/ 311)، وانظر حاشية ابن الحاج على ميارة ص(279).
وقال العلامة المحقق شيخ الشيوخ أبو سعيد ابن لب رحمه الله تعالى في الرد على من كره الدعاء عقب الصلاة:"غاية ما يستند إليه منكر الدعاء أدبار الصلوات أن التزامه على ذلك الوجه لم يكن من عمل السلف، وعلى تقدير صحة هذا النقل، فالترك ليس بموجب لحكم في ذلك المتروك إلا جواز الترك وانتفاء الحرج فيه، وأما تحريم أو لصوق كراهية بالمتروك فلا، ولا سيما فيما له أصل جملي متقرر من الشرع كالدعاء" .نقلا عن : حسن التفهم والدرك لمسألة الترك، لعبد الله بن الصديق الغماري (ص:15).
وقال أيضا: وقال العلامة ابن لب الأندلسي المالكي رحمه الله تعالى:"والترك المروي عن السلف لا يدل على حكم، إذ لم ينقل عن أحد أنه كرهه أو منعه، ..وشأن نوافل الخيرات جواز تركها، والحق أن فيه الأجر والثواب، لأنه داخل في باب الخير المرغب فيه على الجملة " .
قال الشيخ الوزاني رحمه الله تعالى في نظم العمل:
والذِّكْرُ مع قراءة الأحزاب جماعةً شَاعَتْ مَدَا الأحْقَاب
قال العلامة الفقيه الشيخ عبد الصمد كنون رحمه الله تعالى في شرحه : " (( والذكر مع قراءة الأحزاب )) على صوت واحد (( شاع )) وفشا في المساجد (( مدا الأحقاب )) أي أزمان كثيرة، فقد قال العلامة أبو العباس سيدي أحمد بن يوسف الفاسي رحمه الله في تأليف له في هذا المعنى: الذي عليه الجمهور من سلف هذه الأمة وخلفها، المتحققين بقواعد الشريعة وفروعها، واتفق عليه الصوفية وكافة أهل الأقطار في متأخر هذه الأعصار، ومضى به العمل ولم يزل معروفا جواز الجهر بالذكر واستحبابه ، وكذا الجمع له . اهـ
ومن جواب لأبي الفضل العقباني ما نصه: ومما يقع السؤال عنه هنا الاجتماع على الذكر هل له أصل في الشربعة يهدي إليه ؟.
فأقول: وقع في الصحيحين عن ابي هريرة وأبي سعيد الخدري أنهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده"، ومثل هذا الخبر في الصحيح في الاجتماع على تلاوة القرآن، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وحفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده ".
قال المازري :وظاهره يبيح الاجتماع لقراءة القرآن في المساجد،وإن كان مالك كره ذلك في المدونة، ولعله إنما قال ذلك لأنه لم ير السلف يفعلونه مع حرصهم على الخير. قال بعض الشيوخ : ولعله من البدع الحسنة، كقيام رمضان وغيره، وقد جرى العمل ببلدنا بين أيدي العلماء، والأمر فيه خفيف، وجرى الأمر عليه في المغرب كله، وفي المشرق فيما بلغنا، ولا نكير، وهو من باب التعاون على الخير وعمل البر ووسيلة لنشاط الكسلان، وقد نصوا على أن حكم الوسائل حكم المتوسل إليه اهـ " انتهى كلام الشيخ كنون رحمه الله .
جنى زهر الآس في شرح نظم عمل فاس لعبد الصمد كنون (ص:138-139).
وقال الإمام البرزلي المالكي رحمه الله تعالى في نوازله:"وأما اجتماعهم للقراءة،فعن مالك قول بالجواز،وهو ظاهر الأحاديث في فضل اجتماعهم لحلق الذكر والقرآن،وعليه عمل الناس اليوم في الأمصار" .
وفي النهاية أقول:
اعلم أيها الطالب –رحمنا الله وإياك- : أنه قد تقررفي الاصول أن المسائل الاجتهادية لا يصح فيها الإنكار،وإن سوغ فيها فإنما ذلك من باب النصيحة.
والنصح له آدابه وأخلاقه وضوابطه،وشتان بينه وبين النبز بالتبديع والتفسيق والرمي باتباع الهوى..
يقول الإمام الجليل سفيان الثوري:"إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي قد اختلف فيه وأنت ترى غيره فلا تنهه" .
وقال السيوطي رحمه الله تعالى : " لا ينكر المختلف فيه،وإنما ينكر المجمع عليه" .
وقال ابن تيمية رحمه الله تعالى:"مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه، فإن كان الإنسان يظهر له رجحان أحد القولين عمل به، وإلا قلد بعض العلماء الذين يعتمد عليهم في بيان أرجح القولين" .
ولله در الشيخ المحقق عبد الله الغماري رحمه الله تعالى إذ يقول :
إذا كان بحث في فروع شريعة ... فاحذر من التأثيم والتضليل
إذ كل فرع ليس يبلغ رتبة ... في الجرم كالتوحيد والتنزيل
والفقه علم غامض وبحوثه ... تحتاج للتنظير والتعليل
فإذا أصبت فأنت جد موفق ... أو لا،فلا تفزع إلى التهويل
ودع الغلو مع الغرور بجانب ... واجنح لحسن القول والتأويل
لا شيء ينفع في العلوم كحجة ... مدعومة بقواعد وأصول
والله نرجو أن ينير عقولنا ... وينيلنا في الحشر حسن مقيل.
وإلى هنا انتهى ما أردت بسطه في هذا المقام ، فإن يكن خيرا فتوفيق من الله تعالى ، فله الحمد والشكر ، وإن يكن غير ذلك فمني ومن الشيطان ، وأعوذ بالله من نزغات الهوى ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما كثيرا ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الحمد الله الذي جعل ذكره عدة للمتقين يتوصلون بها إلى خيري الدنيا والدين، وجنة واقية للمؤمنين عرض الشياطين، وشر إخوانهم المتمردين من طوائف الخلق أجمعين، والصلاة والسلام على خير البشر الذي أنزل عليه {ولذكر الله أكبر} فبين للعباد من فضائل الأذكار وما فيها من المنافع الكبار، والفوائد ذوات الأخطار، ما ملأ الأسفار وتناقلته ألسن الرواة في جميع الأقطار، وكان به العمل في جميع الأعصار، وعلى آله الطاهرين وأصحابه الهادين المهتدين، أما بعد:
بِكَ اسْتَعَنْتُ إِلهِي عَاجِزاً فَأَعِنْ ... أَبْغِي رِضَاكَ فَأَسْعِفْنِي بِأَطْيَبِهِ
فَإِنْ تُعِنْ ثَعْلَباً يَسْطُو عَلَى أَسَدٍ ... أَوْ تَخْذِلِ اللَّيْثَ لاَ يَقْوَى لِثَعْلَبِهِ
وَإِنَّنِي عَالِمٌ ضَعْفِي وَ لاَ عَمَلٌ ... عِنْدِي يُفِيدُ وَلاَ عِلْمٌ أَصُولُ بِهِ
وَرَأْسُ مَالِيَ جَاهُ المُصْطَفَى فَبِهِ ... أَدْعُوكَ رَبِّيَ أَيِّدْنِـي لَهُ وَبِـهِ
[بحر البسيط]
إن من أعظم السنن والمندوبات، هو ذكر الله تعالى آناء الليل وأطراف النهار، وهذا أمر انعقدت كلمة أهل العلم على الترغيب فيه، والحث عليه، إلا ما كان من بعض أهل العلم من تخصيص سنية الذكر على الهيئة الإفرادية دون الاجتماعية، حيث أنهم زعموا عدم مشروعيتها لعدم ورودها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والسلف الصالح رضوان الله عليهم، واستدلوا بالحديث الضعيف الذي أخرجه الدارمي عن ابن مسعود، وزعموا أن حديث {كل بدعة ضلالة} يشمل كل ما أحدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان له أصل في الشرع يرجع إليه، فوقعوا في التناقض لأن بعض الصحابة والتابعين قد أحدثوا بعض البدع واستحسنوها، انظر الامثلة على ذلك في كتاب (إتقان الصنعة في تحقيق معنى البدعة) للحافظ الغماري.
ولخصوص هذه المسألة كتبت بحثي هذا، إسعافا للطالبين، ونصرة للمتعبدين برد طعن الخاملين، وإحقاقا للحق، وجلاء للصواب، وبيانا لمشروعية الاجتماع على الذكر بصوت واحد إذا لم يؤدي ذلك إلى محذور شرعي، فأقول:
إن الاجتماع على الذكر بلسان واحد جائز شرعا، لورود عدة نصوص تدل على استحباب الاجتماع على الذكر منها:
ما أخرجه مسلم قال (2701) حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا مرحوم بن عبد العزيز، عن أبي نعامة السعدي، عن أبي عثمان، عن أبي سعيد الخدري، قال: خرج معاوية على حلقة في المسجد، فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله، قال آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك، قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل عنه حديثا مني، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه، فقال: «ما أجلسكم؟» قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام، ومن به علينا، قال: «آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟» قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك، قال: «أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكنه أتاني جبريل فأخبرني، أن الله عز وجل يباهي بكم الملائكة»
صحيح مسلم (4/ 2075)اهـ وفي لفظ النسائي:" ندعو الله" .
فقول معاوية: " خرج على حلقة من أصحابه" دليل على اجتماعهم لأن حلقة القوم هي الجماعة من الناس مستديرين كحلقة الباب وغيرها. والتحلق، تفعل منها: وهو أن يتعمدوا ذلك. (لسان العرب (10/62)
" وقولهم: "جلسنا نذكر الله" بلفظ الجمع ظاهر على أنهم يذكرون جماعة بلسان واحد، ويشهد لهذا ما رواه مسلم عن الأغر أبي مسلم، أنه قال: أشهد على أبي هريرة وأبي سعيد الخدري أنهما شهدا على النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يقعد قوم يذكرون الله عز وجل إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده» ، صحيح مسلم (4/ 2074)
وفي لفظ الترمذي:" ما من قوم يذكرون الله ... الحديث".اهـ
وحديث ابن عباس رضي الله عنهما: «أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة، كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم» وأنه قال: قال ابن عباس: «كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك، إذا سمعته». صحيح مسلم (1/ 410).
قلت: هذا الحديث واضح في أنهم كانوا يذكرون بصوت مرتفع بلسان واحد، لأنه لو كان كل واحد يذكر برفع صوته لشوش على غيره، وهذا منهي عنه لحديث أبي سعيد «ألا إن كلكم مناج ربه، فلا يؤذين بعضكم بعضا، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة»{ سنن أبي داود (2/ 38).
فدل على أنهم اشتركوا في الذكر بصوت واحد حتى لا يشوش بعضهم على بعض، ويشهد أيضا لهذا أيضا ما رواه البخاري عن جندب بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اقرءوا القرآن ما ائتلفت قلوبكم، فإذا اختلفتم فقوموا عنه» صحيح البخاري (6/ 198) فهذا الحديث عام يشمل التلاوة والمعنى.
وفي صحيح مسلم
25 - (2689) حدثنا محمد بن حاتم بن ميمون، حدثنا بهز، حدثنا وهيب، حدثنا سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " إن لله تبارك وتعالى ملائكة سيارة، فضلا يتتبعون مجالس الذكر، فإذا وجدوا مجلسا فيه ذكر قعدوا معهم، وحف بعضهم بعضا بأجنحتهم، حتى يملئوا ما بينهم وبين السماء الدنيا، فإذا تفرقوا عرجوا وصعدوا إلى السماء، قال: فيسألهم الله عز وجل، وهو أعلم بهم: من أين جئتم؟ فيقولون: جئنا من عند عباد لك في الأرض، يسبحونك ويكبرونك ويهللونك ويحمدونك ويسألونك، قال: وماذا يسألوني؟ قالوا: يسألونك جنتك، قال: وهل رأوا جنتي؟ قالوا: لا، أي رب قال: فكيف لو رأوا جنتي؟ قالوا: ويستجيرونك، قال: ومم يستجيرونني؟ قالوا: من نارك يا رب، قال: وهل رأوا ناري؟ قالوا: لا، قال: فكيف لو رأوا ناري؟ قالوا: ويستغفرونك، قال: فيقول: قد غفرت لهم فأعطيتهم ما سألوا، وأجرتهم مما استجاروا، قال: فيقولون: رب فيهم فلان عبد خطاء، إنما مر فجلس معهم، قال: فيقول: وله غفرت هم القوم لا يشقى بهم جليسهم "اهـ متفق عليه.
قال الحافظ ابن حجر: وفي الحديث فضل مجالس الذكر والذاكرين ، وفضل الاجتماع على ذلك ، وأن جليسهم يندرج معهم في جميع ما يتفضل الله تعالى به عليهم إكراما لهم ولو لم يشاركهم في أصل الذكر. فتح الباري (11/212).
قلت: "لفظ" (يذكرون ويدعون ويسبحون ويهللون ويتلون ويمجدون) كلها بواو الجمع، ولم يرد في حديث واحد من هذه الاحاديث التصريح بالإفراد، ولو كان المقصود هو الإفراد، لقال عليه الصلاة والسلام: يذكر كل واحد منهم، أويدعو كل واحد منهم أويسبح كل واحد منهم إلخ ... وقد أوتي عليه الصلاة والسلام جوامع الكلم.
قواعد أصولية يجب مراعتها:
ولتجلية المسألة لعدم وضوحها عند البعض، ومخالفة بعضهم قواعد الاستدلال نقول:
قد تأول بعضهم هذه الاحاديث بحمل (يتلون يسبحون يهللون) على ذكر الواحد، من باب إطلاق الجمع وإرادة الواحد، وهو أسلوب من أساليب العرب في الكلام مشهور،كنحو قوله تعالى {فعقروها}[الشمس:14] وإنما العاقر واحد.
فالجواب إن قوله:" يتلون" حقيقة في التلاوة الجماعية، وكذا يسبحون ويهللون في الذكر الجماعي، وحمله على الافراد والواحد من باب المجاز، وحمل اللفظ على حقيقته أولى من حمله على المجاز، كما هو مقرر في علم الاصول.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن في حمل قوله " يتلون ويذكرون" على الافراد دون الجمع، استنباط معنى من النص يعود عليه بالبطلان، كما قال الفقيه الهيتمي ، والشيخ المناوي ، وهو ممتنع، إذ القاعدة المتقررة عند الفقهاء أن : " الاستنباط من النص بما ينعكس عليه بالتغيير مردود"، أو بعبارة أخرى :" الشيء يعتبر ما لم يعد على موضوعه بالإبطال والنقض" .
قال العلامة ابن الملقن رحمه الله تعالى :" المعنى المستنبط إذا عاد على النص بإبطال مردود عند جميع الأصوليين، فإن عاد بالتخصيص ففيه نظر، كذا قاله الشيخ تقي الدين، وقال غيره: إنه مردود أيضا عند جميعهم " .
ولو فرضنا جدلا أنه لم يرد دليل بخصوص هذه المسألة، وعلى فرض أنا أهملنا دلالة العام في هذا المقام، فإن ذلك لا ينفي شرعية هذا الفعل، إذ غاية ما فيه كونه اجتماعا، والاجتماع ليس محرما في حد ذاته، فكيف إذا ضم إليه تحصيل طاعة، مثل التلاوة والذكر والدعاء.
وكذلك من المعلوم بالضرورة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل جميع المباحات، لأنها كثيرة، لا يستطيع بشر أن يستوعبها عدا، فضلا عن أن يتناولها.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان زاهدا متقللا، ويترك ما زاد على ذلك.
فمن زعم تحريم شيء بدعوى [أن] النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله فقد ادعى ما ليس عليه دليل، وكانت دعواه مردودة.
وفي الصحيحين عن خالد بن الوليد أنه دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم بيت ميمونة، فأتى بضب محنوذ فأهوى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده فقيل: هو ضب يا رسول الله فرفع يده، فقلت: أحرام هو يا رسول الله؟ فقال: "لا ولكن لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه" قال خالد: فاجتررته فأكلته، والنبي صلى الله عليه وسلم ينظر.
وفي الحديث دليل للقاعدة الأصوليه: أن ترك الشيء، لا يقتضى تحريمه قد يقال: سؤال خالد، يدل على خلاف القاعدة. وهو أن الترك يقتضي التحريم وقد استدل به بعضهم لذلك.
فيقال في جوابه: لما رأى خالد اعراض النبي صلى الله عليه وسلم عن الضب بعد ما أهوى إليه ليأكل منه، حصل عنده شبهة في تحريمه، فلذلك سأل. وكان جواب النبي صلى الله عليه وسلم له، مؤيدا للقاعدة، ومؤكدا لعمومها في أن ترك الشيء ولو بعد الإقبال عليه لا يفيد تحريمه وفي الحديث دليل أيضا على أن استقذار الشيء لا يحرمه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم استقذر الضب وعافه، ولم يحرمه.
ومن المعلوم ايضا بالضرورة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل جميع المندوبات، لاشتغاله بمهام عظام، استغرقت معظم وقته: كتبيلغ الدعوة، ومجادلة المشركين والكتابين، وجهاد الكفار، لحماية بيضة الإسلام، وعقد معاهدات الصلح والأمان والهدنة وإقامة الحدود، وإنفاذ السرايا للغزو وبعث العمال بجباية الزكاة، وتبليغ الأحكام، وغير ذلك مما يلزم لتأسيس الدوله الإسلامية، وتحديد معالمها، بل ترك صلى الله عليه وسلم بعض المندوبات عمدا، مخافة أن تفرض على أمته، أو يشق عليهم إذا هو فعله.
ولأنه صلى الله عليه وسلم اكتفى بالنصوص العامة الشاملة للمندوبات بجميع أنواعها منذ جاء الإسلام، إلى قيام الساعة، مثل: {وما تفعلوا من خير يعلمه الله} {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} {وافعلوا الخير لعلكم تفلحون} {ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا} {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره} وجاءت الأحاديث النبوية، على هذا المنوال، وسنذكر بعضها بحول الله تعالى فمن زعم في فعل خير مستحدث، أنه بدعة مذمومة، فقد أخطأ وتجرأ على الله ورسوله حيث ذم ما ندب [الله ورسوله] إليه، في عموميات الكتاب والسنة.
وأما ما يقول بعضهم من أن حديث " كل بدعة ضلالة"، عام فهذا غلط، قال النووي في شرحه: قوله صلى الله عليه وسلم: "وكل بدعة ضلالة" هذا عام مخصوص والمراد غالب البدع قال أهل اللغة: هي كل شيء عمل غير مثال سابق. قال العلماء البدعة خمسة أقسام واجبة ومندوبة ومحرّمة ومكروهة فمن الواجبة نظم أدلّة المتكلمين، للرّد على الملاحدة والمبتدعين وشبه ذلك ومن المندوبة تصنيف كتب العلم وبناء المدارس والربط وغير ذلك. ومن المباح [التبسّط] في ألوان الأطعمة وغير ذلك. والحرام والمكروه ظاهران فإذا عرف ما ذكرته، علم أن الحديث من العام المخصوص، وكذا ما أشبهه من الأحاديث الوارده، ويؤيدها قول عمر رضي الله عنه نعمة البدعة، ولا يمنع من كون الحديث [عام مخصوص] قوله: "كل بدعة"، مؤكدا بـ"كل"، بل يدخله التخصيص مع ذلك كقوله تعالى: {تدمر كل شيء} اهـ.".اهـ
وقال الحافظ بن رجب في شرحه:
"والمراد بالبدعة ما أحدث مما لا أصل له في الشريعه يدل عليه، وأما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه فليس ببدعة شرعا، وإن كان بدعة لغة" اهـ.
وقال الحافظ بن حجر :
"والمحدثات بفتح الدال جمع محدثه، والمراد بها ما أحدث وما ليس له أصل في الشرع، ويسمى في عرف الشرع بدعة، وما كان له أصل يدل عليه الشرع، فليس ببدعة، فالبدعة في عرف الشرع مذمومة، بخلاف اللغة، فإن كل شيء أحدث على غير مثال، يسمى بدعة سواء كان محمودا او مذموما اهـ.
وروى أبو نعيم عن ابراهيم بن الجنيد، قال: سمعت الشافعي يقول: البدعة بدعتان: بدعة محمودة، وبدعة مذمومة، فما وافق السنة فهو محمود وما خالف السنة فهو مذموم.
وروى البيهقي في مناقب الشافعي عنه، قال: المحدثات ضربان: ما أحدث مما يخالف كتابا أو سنةً أو أثرا أو إجماعا، فهذه بدعة الضلالة.
قال الشيخ الإمام المجمع على إمامته وجلالته وتمكنه من أنواع العلوم وبراعته أبو محمد عبد العزيز بن عبد السلام رحمه الله ورضي عنه، في ءاخر كتاب القواعد: البدعة منقسمة إلى واجبة ومحرمة ومندوبة ومكروهة ومباحة قال: والطريق في ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة، فإن دخلت في قواعد الإيجاب، فهي واجبة، أو في قواعد التحريم فمحرمة، أو الندب، فمندوبة، أو المكروهة فمكروهة، أو المباح فمباحة.
قلت: بهذه القواعد استنبط الحفاظ والائمة استحباب الاجتماع على الذكر .
وهذه أقوالهم في شرحهم لحديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تعالى، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده». صحيح مسلم (4/ 2074).
قال الامام النووي:
" وفي هذا دليل لفضل الاجتماع على تلاوة القرآن في المسجد وهو مذهبنا ومذهب الجمهور وقال مالك يكره وتأوله بعض أصحابه".
(شرح النووي على مسلم (17/ 21)
وقال المناوي:
"وفيه [ أي الحديث] رد على مالك -رحمه الله تعالى- حيث كره الاجتماع لنحو قراءة وذكر، وحمل الخبر على أن كلا منهم كان مع الاجتماع يقرأ لنفسه منفردا، وفيه استنباط معنى من النص يعود عليه بالإبطال، إذ لا اجتماع حينئذ" .
فيض القدير للمناوي (5/409).
ويقول العلامة الفقيه الهيتمي رحمه الله :
" فيه – أي الحديث – فضيلة الاجتماع على تلاوة القرآن والذكر في المسجد، وهو مذهب الجمهور" . فتح المبين (ص:259).
ويقول العلامة الصنعاني رحمه الله تعالى :
" دل الحديث على فضيلة مجالس الذكر والذاكرين، وفضيلة الاجتماع على الذكر" .
وقال الجلال السيوطي رحمه الله تعالى:
"ولا بأس باجتماع الجماعة في القراءة" . الإتقان في علوم القرآن،للسيوطي (1/233).
وقال الحافظ السخاوي رحمه الله تعالى :
" الاجتماع لتلاوة كتاب الله عز وجل في الزوايا وما أشبهها من الأماكن المعدة لذلك وشبهه، وكذا في الأماكن المباحة، بل والمملوكة بإذن المالك في كل وقت من ليل أو نهار حتى في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها أمر مستحب.
وقد صح قوله صلى الله عليه وسلم: " ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله،ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده".
والمنع من ذلك لا وجه له، بل الإحسان إلى هذه الطائفة والاهتمام بشأنها بالإطعام وغيره من أنواع الإكرام مطلوب ، نعم إن كان هناك أحد من المصلين أو قارئ آخر غيرهم فيستحب عدم المبالغة في الصوت خشية التغليط.
وإذا علم ذلك فيقال للمانع: أنت مطالب بالدليل على ما قلت، فإن ذكر مقتضيا لذلك نُظِرَ فيه، وإن عجز دل عجزه على أنه لم يحقق ما قال، ويعزر حينئذ على القول بالهوى" . الأجوبة المرضية فيما سئل السخاوي عنه (2/772-773).
أقوال أئمتنا المالكية في حكم الذكر الجماعي والدعاء بعد الصلاة:
قال العلامة الدرديرفي الشرح الكبير: (و) جاز (رفع صوت مرابط) وحارس بحر (بالتكبير) في حرسهم ليلا ونهارا؛ لأنه شعارهم، ومثله رفعه بتكبير العيد وبالتلبية، وكذا التهليل والتسبيح الواقع بعد الصلوات الخمس أي من الجماعة لا المنفرد، والسر في غير ذلك أفضل ووجب إن لزم من الجهر التشويش على المصلين أو الذاكرين. الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي (2/ 182).
وقال النفراوي: قال القرافي: كره مالك وجماعة من العلماء لأئمة المساجد والجماعات الدعاء عقب الصلوات المكتوبة جهرا للحاضرين، فيحصل للإمام بذلك نوع من العظمة بسبب نصب نفسه واسطة بين الرب وعبده من تحصيل مصالحهم على يديه من الدعاء، ثم قال ابن ناجي: قلت وقد استمر العمل على جوازه عندنا بإفريقية، وكان بعض من لقيته يصرح بأن الدعاء ورد الحث عليه من حيث الجملة.
قال تعالى: {ادعوني أستجب لكم} [غافر: 60] لأنه عبادة فلذا صار تابعا فعله بل الغالب على من ينصب نفسه لذلك التواضع والرقة فلا يهمل أمره بل يفعل، وما كل بدعة ضلالة، بل هو من البدع الحسنة، والاجتماع فيه يورث الاجتهاد فيه والنشاط، وأقول: طلب ذلك في الاستسقاء ونحوه شاهد صدق فيما ارتضاه ابن ناجي. النفراوي: الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني (1/ 214)
وقال ابن بطال: (وسمعتهم يصرخون بهما) [أي بعد الظهر والعصر بالتلبية] إنما سمع الذين قرنوا خاصة لثبوت الإفراد .(شرح صحيح البخارى لابن بطال (4/ 221).
فقوله: سمع الذين قرنوا أي لبوا بصوت واحد.
وقال مفتي المالكية العلامة ابن عرفة - رحمه الله – في المعيار المعرب:
"والله حسيب أقوام ظهر بعضهم ولا يعلم له شيخ ، ولا لديهم مباد ئ العلم الذي يفهم به كلام العرب والكتاب والسنة، يفتون في دين الله بغير نصوص السنة"
ومما ترجع إليه هذه الأجوبة لتخريج هذا العرف:
- استناده لأحاديث منها ما روى الحاكم في المستدرك من حديث حبيب بن مسلمة الفهري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يجتمع قوم مسلمون يدعو بعضهم ويؤمن بعضهم إلا استجاب الله دعاءهم"
- أن ذلك من باب التعاون على البر والتقوى (الدعاء والذكر) على أصلهما المشروع - تحفيظ هذه الأدعية والأذكار ، وبعض السور لعموم الناس وخاصة الأميين.
- يفرق في هذا العمل بين اعتقاد أنه من سنن الصلاة وتوابعها ومكملاتها فيبدع معتقد ذلك، وبين اعتقاد أ نه دعاء بإثر الصلاة منفصل عنها، وأن الصلاة انتهت بالتسليم منها، وهذا هو معتقد الناس، ولا وجه لإنكار ذلك أو تبديعه.
وأما ما رو ي عن الإمام مالك رحمه الله في كراهة الاجتماع للدعاء عقب الصلاة، فإنها كراهة مذهبية تزول بزوال دواعيها[، كما أجيب عن ذلك بأجوبة أخرى كما نقل النفراوي.أهـ
وقال أيضا: "وما سمعت من ينكره الاجاهل غير مقتدي به" حاشية ابن الحاج ص(280).
وقد رجح العلامة المواق ما ذهب اليه النووي من الاستحباب فقال: قال:محيي الدين النووي في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ما اجتمع قوم يتلون كتاب الله» الحديث.
فيه جواز قراءة القرآن بالإدارة وهو مذهبنا ومذهب الجمهور وكرهه مالك وتأول ذلك بعض أصحابنا ابن رشد: إنما كرهه مالك لأنه أمر مبتدع ولأنهم يبتغون به الألحان على نحو ما يفعل في الغناء فوجه المكروه في ذلك بين.
المازري: وظاهر الحديث يبيح الاجتماع لقراءة القرآن في المساجد، وإن كان مالك قد قال بالكراهة لنحو ما اقتضى هذا الظاهر جوازه.
ولعله لما صادف العمل لم يستمر عليه كره إحداثه وكان كثيرا ما يترك بعض الظواهر بالعمل.
وقال عز الدين بن عبد السلام في قواعده: من العجب العجيب أن يقف المقلد على ضعف مأخذ إمامه وهو مع ذلك يقلده كأن إمامه نبي أرسل إليه وهذا نأي عن الحق وبعد عن الصواب لا يرضى به أحد من أولي الألباب، بل تجد أحدهم يناضل عن مقلده ويتحيل لدفع ظواهر الكتاب والسنة ويتأولها وقد رأيناهم يجتمعون في المجالس فإذا ذكر لأحدهم خلاف ما وطن عليه نفسه تعجب منه غاية التعجب لما ألفه من تقليد إمامه حتى ظن أن الحق منحصر في مذهب إمامه، ولو تدبر لكان تعجبه من مذهب غيره.
فالبحث مع هؤلاء ضائع مفض إلى التقاطع والتدابر من غير فائدة يجديها، فالأولى ترك البحث مع هؤلاء الذين إذا عجز أحدهم عن تمشية مذهب إمامه قال: لعل إمامي وقف على دليل لم أقف عليه، ولا يعلم المسكين أن هذا مقابل بمثله ويفصل لخصمه ما ذكره من الدليل الواضح.
فسبحان الله ما أكثر من أعمى التقليد بصره حتى حمله على مثل ما ذكرته، وفقنا الله لاتباع الحق أينما كان وعلى لسان من ظهر، انتهى نصه.
التاج والإكليل لمختصر خليل (2/ 365).
وقال مالك في جواز التكبير الجماعي دبر الصلوات في أيام التشريق:
" الأمر عندنا أن التكبير في أيام التشريق دبر الصلوات وأول ذلك تكبير الإمام والناس معه". اهـ قال الزرقاني:
احتج بالعمل، لأنه لم يرو في ذلك حديث. شرح الزرقاني على الموطأ (2/ 548).
قال العلامة ابن ناجي: افترق الناس بالقيروان فرقتين بمحضر أبي عمران الفاسي وأبي بكر بن عبد الرحمن، فإذا فرغت إحداهما من التكبير وسكتت أجابت الأخرى، فسئلا عن ذلك فقالا: إنه لحسن، ثم قال: قلت واستمر عمل الناس عندنا على ذلك بأفريقية بمحضر غير واحد من أكابر الشيوخ اهـ، ولا يشكل على استحسانهما فعله جماعة كون ذلك بدعة؛ لأن البدعة قد تكون حسنة. الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني (1/ 273)
قال ميارة:وحاصل ما انفصل عنه الإمام ابن عرفة والغبريني أن ذلك [أي الدعاء عقب الصلاة] إن كان على نية أنه من سنن الصلاة أو فضائلها فهو غير جائز، وإن كان مع السلامة من ذلك فهو باق على حكم أصل الدعاء والدعاء عبادة شرعية فضلها من الشريعة معلوم عظمه اهـ المراد منه. حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني (1/ 311)، وانظر حاشية ابن الحاج على ميارة ص(279).
وقال العلامة المحقق شيخ الشيوخ أبو سعيد ابن لب رحمه الله تعالى في الرد على من كره الدعاء عقب الصلاة:"غاية ما يستند إليه منكر الدعاء أدبار الصلوات أن التزامه على ذلك الوجه لم يكن من عمل السلف، وعلى تقدير صحة هذا النقل، فالترك ليس بموجب لحكم في ذلك المتروك إلا جواز الترك وانتفاء الحرج فيه، وأما تحريم أو لصوق كراهية بالمتروك فلا، ولا سيما فيما له أصل جملي متقرر من الشرع كالدعاء" .نقلا عن : حسن التفهم والدرك لمسألة الترك، لعبد الله بن الصديق الغماري (ص:15).
وقال أيضا: وقال العلامة ابن لب الأندلسي المالكي رحمه الله تعالى:"والترك المروي عن السلف لا يدل على حكم، إذ لم ينقل عن أحد أنه كرهه أو منعه، ..وشأن نوافل الخيرات جواز تركها، والحق أن فيه الأجر والثواب، لأنه داخل في باب الخير المرغب فيه على الجملة " .
قال الشيخ الوزاني رحمه الله تعالى في نظم العمل:
والذِّكْرُ مع قراءة الأحزاب جماعةً شَاعَتْ مَدَا الأحْقَاب
قال العلامة الفقيه الشيخ عبد الصمد كنون رحمه الله تعالى في شرحه : " (( والذكر مع قراءة الأحزاب )) على صوت واحد (( شاع )) وفشا في المساجد (( مدا الأحقاب )) أي أزمان كثيرة، فقد قال العلامة أبو العباس سيدي أحمد بن يوسف الفاسي رحمه الله في تأليف له في هذا المعنى: الذي عليه الجمهور من سلف هذه الأمة وخلفها، المتحققين بقواعد الشريعة وفروعها، واتفق عليه الصوفية وكافة أهل الأقطار في متأخر هذه الأعصار، ومضى به العمل ولم يزل معروفا جواز الجهر بالذكر واستحبابه ، وكذا الجمع له . اهـ
ومن جواب لأبي الفضل العقباني ما نصه: ومما يقع السؤال عنه هنا الاجتماع على الذكر هل له أصل في الشربعة يهدي إليه ؟.
فأقول: وقع في الصحيحين عن ابي هريرة وأبي سعيد الخدري أنهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده"، ومثل هذا الخبر في الصحيح في الاجتماع على تلاوة القرآن، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وحفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده ".
قال المازري :وظاهره يبيح الاجتماع لقراءة القرآن في المساجد،وإن كان مالك كره ذلك في المدونة، ولعله إنما قال ذلك لأنه لم ير السلف يفعلونه مع حرصهم على الخير. قال بعض الشيوخ : ولعله من البدع الحسنة، كقيام رمضان وغيره، وقد جرى العمل ببلدنا بين أيدي العلماء، والأمر فيه خفيف، وجرى الأمر عليه في المغرب كله، وفي المشرق فيما بلغنا، ولا نكير، وهو من باب التعاون على الخير وعمل البر ووسيلة لنشاط الكسلان، وقد نصوا على أن حكم الوسائل حكم المتوسل إليه اهـ " انتهى كلام الشيخ كنون رحمه الله .
جنى زهر الآس في شرح نظم عمل فاس لعبد الصمد كنون (ص:138-139).
وقال الإمام البرزلي المالكي رحمه الله تعالى في نوازله:"وأما اجتماعهم للقراءة،فعن مالك قول بالجواز،وهو ظاهر الأحاديث في فضل اجتماعهم لحلق الذكر والقرآن،وعليه عمل الناس اليوم في الأمصار" .
وفي النهاية أقول:
اعلم أيها الطالب –رحمنا الله وإياك- : أنه قد تقررفي الاصول أن المسائل الاجتهادية لا يصح فيها الإنكار،وإن سوغ فيها فإنما ذلك من باب النصيحة.
والنصح له آدابه وأخلاقه وضوابطه،وشتان بينه وبين النبز بالتبديع والتفسيق والرمي باتباع الهوى..
يقول الإمام الجليل سفيان الثوري:"إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي قد اختلف فيه وأنت ترى غيره فلا تنهه" .
وقال السيوطي رحمه الله تعالى : " لا ينكر المختلف فيه،وإنما ينكر المجمع عليه" .
وقال ابن تيمية رحمه الله تعالى:"مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه، فإن كان الإنسان يظهر له رجحان أحد القولين عمل به، وإلا قلد بعض العلماء الذين يعتمد عليهم في بيان أرجح القولين" .
ولله در الشيخ المحقق عبد الله الغماري رحمه الله تعالى إذ يقول :
إذا كان بحث في فروع شريعة ... فاحذر من التأثيم والتضليل
إذ كل فرع ليس يبلغ رتبة ... في الجرم كالتوحيد والتنزيل
والفقه علم غامض وبحوثه ... تحتاج للتنظير والتعليل
فإذا أصبت فأنت جد موفق ... أو لا،فلا تفزع إلى التهويل
ودع الغلو مع الغرور بجانب ... واجنح لحسن القول والتأويل
لا شيء ينفع في العلوم كحجة ... مدعومة بقواعد وأصول
والله نرجو أن ينير عقولنا ... وينيلنا في الحشر حسن مقيل.
وإلى هنا انتهى ما أردت بسطه في هذا المقام ، فإن يكن خيرا فتوفيق من الله تعالى ، فله الحمد والشكر ، وإن يكن غير ذلك فمني ومن الشيطان ، وأعوذ بالله من نزغات الهوى ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما كثيرا ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
رد: إخبار القاصي والداني بأدلة جواز الذكر الجماعي
قال العلامة المجتهد سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي المالكي الشنقيطي
باب في الذكر: الفصل الأول الجمع للذكر
39والجمع للذكر وللقرءان ... جرى به العمل في البلدان
40ونصه الصريح رد المنكرا ... والعذر عن خفائه قد ظهرا
41وهو مما ينبغي التمسك ... به ليدرك الجهيل مُدرك
الفصل الثاني في الجهر بالذكر
42والجهر ندبه هو المعول ... من غير مانع كعجب يحصل
43ومثله التخليط والتنبيه ... ونحوه مما يرى النبيه
44إذ فيه إيقاظ لقب الغافل ... وكثرة الشغل وعلم الجاهل
45فالزمه بالغدو والأصائل ... في سادة ذوي اهتدى أماثل
46وقد يخف واحد لمن تلا ... فبعضهم ذاك يرى مفضلا
الفصل الثالث شروط الجمع للذكر
47وشرطه خلوه من مانع ... أوترك مأمور به مدافع
48فيمنع النسا من الحضور ... إلا فتمنع من الظهور
49للشخص والصوت وقل للناس ... ثلاثة نظم أبي العباس
الفصل الرابع الرقص في الذكر
50(والرقص فيه دون هجم الحال ... ليس على طريقة الرجال)
51(ومن يكن يقوى على السكون ... فإنه أسلم للظنون)
الفصل الخامس مايمنع وقت الذكر
52(ولا يجوز عنده التكلم ... ولا التلهي لا ولا التبسم)
53ولا التلفت ولا التوسم ... في حاضر ولا صراخ يفهم
54ولا التنحنح ولا التحرك ... بكثرة إن كان تركا يملك
الفصل السادس الذكر في المساجد
55وتركه في مسجد الأمصار ... مشوشا من عمل الأخيار
الفصل السابع في آداب الذكر
56ومنه إطراق الرؤس ويجي ... في حالة القيام دون حرج
57منه طهارة وطيب المجلس ... لمؤمن الجن وطيب الملبس
58والأدب التحليق في المجالس ... في الذكر والعلم لكل جالس
59وفعله للعذر.....للقضا ... إن فات دون قصد ذاك مرتضى
الفصل الثامن الختام
60قد انتهى نظام رشد الغافل ... نصيحة مني لكل غافل
61فالحمد لله على تمامه ... وشرحه الصدر إلى ختامه
62ثم صلاة الله والسلام ... على الذي اهتدى به الأنام
63وآله وصحبه خير الأمم ... ينابيع العلم ومعدن الكرم
باب في الذكر: الفصل الأول الجمع للذكر
39والجمع للذكر وللقرءان ... جرى به العمل في البلدان
40ونصه الصريح رد المنكرا ... والعذر عن خفائه قد ظهرا
41وهو مما ينبغي التمسك ... به ليدرك الجهيل مُدرك
الفصل الثاني في الجهر بالذكر
42والجهر ندبه هو المعول ... من غير مانع كعجب يحصل
43ومثله التخليط والتنبيه ... ونحوه مما يرى النبيه
44إذ فيه إيقاظ لقب الغافل ... وكثرة الشغل وعلم الجاهل
45فالزمه بالغدو والأصائل ... في سادة ذوي اهتدى أماثل
46وقد يخف واحد لمن تلا ... فبعضهم ذاك يرى مفضلا
الفصل الثالث شروط الجمع للذكر
47وشرطه خلوه من مانع ... أوترك مأمور به مدافع
48فيمنع النسا من الحضور ... إلا فتمنع من الظهور
49للشخص والصوت وقل للناس ... ثلاثة نظم أبي العباس
الفصل الرابع الرقص في الذكر
50(والرقص فيه دون هجم الحال ... ليس على طريقة الرجال)
51(ومن يكن يقوى على السكون ... فإنه أسلم للظنون)
الفصل الخامس مايمنع وقت الذكر
52(ولا يجوز عنده التكلم ... ولا التلهي لا ولا التبسم)
53ولا التلفت ولا التوسم ... في حاضر ولا صراخ يفهم
54ولا التنحنح ولا التحرك ... بكثرة إن كان تركا يملك
الفصل السادس الذكر في المساجد
55وتركه في مسجد الأمصار ... مشوشا من عمل الأخيار
الفصل السابع في آداب الذكر
56ومنه إطراق الرؤس ويجي ... في حالة القيام دون حرج
57منه طهارة وطيب المجلس ... لمؤمن الجن وطيب الملبس
58والأدب التحليق في المجالس ... في الذكر والعلم لكل جالس
59وفعله للعذر.....للقضا ... إن فات دون قصد ذاك مرتضى
الفصل الثامن الختام
60قد انتهى نظام رشد الغافل ... نصيحة مني لكل غافل
61فالحمد لله على تمامه ... وشرحه الصدر إلى ختامه
62ثم صلاة الله والسلام ... على الذي اهتدى به الأنام
63وآله وصحبه خير الأمم ... ينابيع العلم ومعدن الكرم
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى