منتدى المدرسة العتيقة توبكال هلالة
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

أهم العلوم التي يعتني بها السوسيون قديما وحديثا

اذهب الى الأسفل

أهم العلوم التي يعتني بها السوسيون قديما وحديثا Empty أهم العلوم التي يعتني بها السوسيون قديما وحديثا

مُساهمة من طرف الشيخ جلال الدين أصياد الثلاثاء يونيو 05, 2012 1:30 pm

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ذي الطول والآلاء، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم الرسل والأنبياء، وعلى آله وأصحابه الأتقياء. أما بعد: فإن المدارس العتيقة العلمية بسوس ازدهرت بشتى أنواع العلوم حتى بلغت مكانة مرموقة، وأصبحت كل العلوم المقررة بفاس والأندلس في القديم تدرس في هذه المدارس، وإذا تتبعنا واستقرأنا هذه العلوم، فسنجدها كثيرة ومتنوعة، وقد أوصلها العلامة محمد المختار السوسي في كتابه (سوس العالمة) إلى: واحد وعشرين فنا وقال: ("وقد عددناها أحدا وعشرين بالإجمال، وإلا فعند التفصيل تكون أكثر من ذلك") اهـ.
وهذه هي العلوم كما ذكرها المختار السوسي (رحمه الله):

1 - فن القراءات:
للقرآن من نواحي فنونه الشتى اعتناء متفاوت من السوسيين، فإنَّهم كأكثر المغاربة في الاعتناء بِحفظه، حتى نال السوسيون في ذلك مرتبة غريبة، وما سبب ذلك إلا لقيامهم بِمساجد القرى أتم قيام، بنظام خاص مُحافظ عليه، منذ اعتنقوا الإسلام، فلا تكاد قبل هذا الْجيل تَجد غالبا من لَم يَمر منهم بالمسجد وإن لَم يأخذ إلا قليلا، أو خرج صفرا، ثُم نَجد كثيرا في كل القرى من يَحرص على أن يَحفظ ولده القرآن بكل ما أمكن، فيبذل جهده في ذلك إمَّا بالرضا وإمَّا بالرغم، وهذا هو السبب الباعث على تلك السيول الجرارة المتموجة من حفظة القرآن الذين أدركناهم، وقلما تَجد قرية في غالب نواحي سوس إلا وكان ربع سكانها أو ما يقرب من ذلك من حفظة القرآن، وأمَّا التي فيها الْخمْس فقط؛ فتدخل في الندور، وأمَّا التي تضم أفرادا فقط؛ فإنَّها من الندور الشاذ في المكانة القصوى، ولا يُمكن قطعا أن تَجد في الجيل الذي أدركناه قرية ليس فيها جَماعة أتقنت حفظه في كل أرجاء سوس، سهلا وجبلا، ثم عشنا حتى رأينا تقلص ذلك تقلصا مُحزنا ، وقد كانت المساجد للقرى مواضع حفظ متن القرآن، وفي كبرياتِها مواضع لإتقان رسْمه الْمصحفي يُرتَحل إليها.
ثُم هناك مدارس كثيرة للمرتبة الثالثة، وهي تعاطي فن القراءات السبع، اشتهرت مدارس بِهشتوكة -فيما أدركنا- بذلك؛ كَمدرسة (أغبالوا) بِماسة، ومدرسة (سيدي وجاج بأجلو)، ومدارس بآيت بعمران؛ منها: مدرسة بوكارفة، ومدرسة الْجمعة بآيت عبلا، ومدارس في الجبال؛ مثل: موزايت، وإيرازان، وأيكضي وهذه ببعقلية، وفركلا برسمُوكة، ومدرسة سيدي صالِح، ومدرسة تزي الاثنين بآيت ودريم، ومدارس في راس الوادي، ومدرسة البعارير التي تَخرج منها سيدي الزوين الْحَوزي الشهير، ومساجد كسيمة، وبعض مَحلات من سفوح جبل درن الجنوبية، وغير هذه المحلات.
وفن القراءات وإتقانه والقيام عليه، من الفنون السوسية التي كانت سايرت عصرهم العلمي من قديم، وهو فن شريف مؤسس على قواعد علمية، تدرس بِمؤلفات الشاطبي وابن الجزري وابن بري والخراز وأمثالَهم، وللسوسيين أيضا مؤلفات في الموضوع، ونعرف من أساطين هذا الفن كثيرين في الْحَيَاة العلمية السوسية؛ منهم: حسين الشوشاوي شارح: (مورد الظمآن)، وسعيد الكرامي شارح (مؤلف الخراز)، ويَحيى بن سعيد الكرامي صاحب شرح (الدرر اللوامع في قراءة نافع)، وأحمد بن سعيد، وموسى الوسكاري، وإبراهيم بن سليمان، ومسعود بن علي الهشتوكيون، وأحمد بن يَحيى التينزرتي، وأحمد بن يَحيى الرسموكي، والْحُسين بن إبراهيم الخالدي السكتاني، ومُحمد بن علي الجزولي الكفيف، ومحمد بن

فعشرات ممن وقفنا على أسمائهم، وعرفناهم أساطين القراءات، إمَّا تعليما وتأليفا، وإمَّا تعليما فقط.
كان هذا الفن معتَنَى به قبل الأجيال الأخيرة اعتناء كثيرا، وكان غالب العلماء مُلمين به أو متقنيه، ثُمَّ تناقص ذلك حتى كان في جهة، وأرباب العلم والفهم في جهة أخرى، فتحسب مئات من العلماء قلما تَجد منهم مَنْ يتقنه، كما تَحسب عشرات من متقنيه، ثُم لا تراهم إلا من حفظة القرآن فقط، بلا علم ولا فهم، وهذا هو السبب حتى تناقصت أهميته شيئا فشيئا، بعد ما كان في الأوج، وبعد ما كان له في سوس شأن يرتحل إلى أخذه عن أساتذته، مثل ما فعل ابن عبد السلام الفاسي في آخر القرن الثاني عشر، فينزل في آيت صواب، فيفيد الفنون العلمية التي عنده، ويأخذ هذا الفن ، ذلك ما كان أمس، وأمَّا اليوم فقد دخل هذا الفن في خبر كان، ولَم يبق من أربابه إلا الأقلون، هُم هامة اليوم أو الغد.

2 - التفسير:
فن التفسير لكلام الله والاعتناء به اشتهر في سوس من قديم إلى العصر الذي أدركناه، وأول من نعرفه من الْمُتصفين بِهذا الفن والبراعة فيه، كما يقوله المعرفون به؛ هو: أبو يَحيَى الكرسيفي من أهل القرن السابع، المتخرج من الأندلس، ثُمَّ لَم يزل يذكر في مدارس التدريس، وإن كان قليل الالتفات إليه حول مناضد المؤلفين إلى هذا الجيل الذي أدركناه، وقد عرفنا من بنات الأقلام حوله كتاب (الفوائد الجميلة على الآيات الجليلة) لِحسين الشوشاوي، وكتاب التفسير مقترحا على بعضهم من بعض قضاة الجماعة في إيليغ، في العصر الذهبي للعلوم العربية بسوس، كما سمعنا كتابا يذكر حول (مشكلات القرآن) لبعض العلماء الجراريين، ولكن إن لَم يعتن كثير الاعتناء بالإمعان في هذا الفن من هذه الناحية، (أي: التفسير للمعاني) فإنه معتنى به جدّا من ناحية الإعراب، فقديما في القرن العاشر ألف سملالي في (إعراب أوائل الأحزاب) ثُم ألَّف أبو زيد الجشتيمي مُجلدين في (إعراب القرآن) كله، وقد أدركنا من عوائد الطلبة بالْمَدارس أن يُحلقوا حَول أساتذتِهم صباحا أو مساء فيعربون مقدار الوقف الأول من الْحِزب الراتب، ثُم لا يذرون من الاستشهاد من المتون كل شيء؛ ومقصودهم بذلك التمرين على إعراب الكلمات، وعلى استحضار الأدلة من المتون.
هذا وكان التفسير يُدرس في كل أدوار سوس العلمية، ولَم ينقطع قط، وقد كان الجشتيميون والأدوزيون والبونعمانيون والأقاريضيون والتيمكدشتون وغيرهم يُدرسونه أنصبة يومية، حتى ليتعالى إلى ذلك من لَم يكن يظن به إتقان كل العلوم التي يحتاج إليها من يتصدى لذلك.
دخلت على الأستاذ أحمد العيني في مَسجد المعدر سنة (1332هـ) فوجدته يُدرس التفسير دراسة حسنة، بلا تعمق فيها، ولكنها مبينة مفيدة، ولروجان هذا الفن وللمواظبة عليه حافظ ظاهر، وهو أن السوسي شلحي غير عربي، لا يُمكن أن يَهتدي لِمعاني الآيات إلا بالتفسير لكلماته، يتلقاه عن أربابه؛ ولذلك شاع عندهم، ثُمَّ لَم ينقطع كما انقطع في جل دراسات المغرب إلى الجيل الأخير، حتى الصوفية يتدارسونه، فقد كان الشيخ الإلغي يُدرسه لِمريديه بتتبع، وينهى فقهاءهم عن الاشتغال بالأبْحَاث اللفظية لئلا يتعدوا المعنى المقصود، ومِمَّن نتذكرهم ممعنين في هذا الفن في التاريخ السوسي -مِمَّن استحضرتهم الآن- حسين بن داود الرسْمُوكي، والْحَسن بن علي التازروالتي دفين باب دكالة بِمراكش، الذي يَحفظ بعض التفاسير حفظا، فيورد كلامها أثناء تدريسه ويقول: انتهى كلام فلان بلفظه، ثم يورد كلام غيره كذلك، وفي مشيخة التامانارتي كثيرون من هؤلاء، وكان الحضيكي مِمَّن يعتني بِهذا الفن تدريسا دائما، كما وجدته منبها عليها بِخط بعض أصحابه، وعبد العزيز التيزختي، ومُحمد بن زكرياء الولتي البارع في التفسير وغيره، وكذلك أبو زيد الجشتيمي، ثُم ولده سيدي الحاج أحمد، وسيدي محمد بن العربي الأدوزي، وابن مسعود، وكثير من المتأخرين، ومُجمل القول: إن هذا الفن لَم يزل متداولا في تدريسهم، ولَم ينقطع قط حتى في العصر الأخير الذي انقطعَ فيه في بعض الحواضر الكبرى، غير أن اعتناءهم بذلك -والْحَق يُقال- يظهر أنَّهم لا يَمنعون كثيرا إلا بِمقدار ما عندهم من الفنون؛ ولذلك قل المبرزون فيه والمؤلفون ، وإنَّما شاعَ تعاطيه فقط بينهم، ولَم يلقوه ظهريا.

3 - 4 - الْحَديث، والسيرة:
هذان العلمان الشريفان لَهُمَا ما لَهُما من قديم عند المسلمين قاطبة، وإذا علمنا أننا لَم نرَ نَهضة علمية كبرى بسوس إلا في القرن التاسع، وهو الذي في آخره بدأ تقلص الاعتناء بِهذين الفنين الجليلين في غالب العالَم الإسلامي الْمُتحضر، لا يطول عجبنا إن لَم نر من بين السوسيين البدويين حُفَّاظا مُحدِّثين كبارا، مع أنَّهم في الحفظيات يبْرَعون فَلَم يبق حينئذٍ إلا ما كان اشتهر مثله.
وذاع في كل بلاد الإسلام -إلا قليلا- من تعاطيهما فقط، فهذا هو الموجود في مَجالس الدراسة بسوس، فمؤلفاتِهم وفهارسهم تشهد بِهذا، وقد اعتادوا كثيرا -لَمَّا ضعف هذا الفن جدّا حتى في فاس وأمثالِها- أن يسردوا الكتب: مسلما، والبخاري، والموطأ، والجامع الصغير، والخصائص الكبرى والصغرى، وما إلى ذلك كالشفاء الممتلئ بالْحَديث حتى كأنه كتاب حديثي صرف، فقد اتصلت في سوس هذه الحلقات من التاسع إلى الآن، بل من أيام أبي يَحْيَى الجرسيفي في السابع الذي يصفونه أيضا بالبراعة في الحديث كالتفسير، وقد عرفنا سعيدا الكرامي من أهل التاسع مستحضرا للحديث، يدل على ذلك ما رأيناه في كتبه الفقهية التي يَمزجها بالحديث، ثُم لا تَمر برجال من كل قرن إلا وجدت منهم اعتناء، بل هناك أناس قليلون بارزون كبروز قليلين من أمثالِهم في الحواضر المغربية المعاصرين لَهم؛ كعبد الله بن المبارك الأقاوي، والنابغة الهوزالي الأديب، وأبي بكر بن يوسف السجتاني، وابن سليمان الروداني صاحب المؤلفات الشتى في الحديث، التي منها الجمع بين الكتب الستة (المطبوع)، ومُحمد بن إبراهيم اليعقوبي التاتلتي، ثم التاجر جوستي، فولده مُحمد بن مُحمد، وأحمد الصوابي، الذي قيل فيه أنه آخر مُحدثي سوس، والحضيكي الذي له في هذا الموضوع كتب كحاشية البخاري، وابنه عبد الله، وحفيده مُحمد بن عبد الله، اللذين كتبا أيضا حول البخاري -فيما قيل لنا- ومُحمد بن عبد الله الإيديكلي، الذي حشى هو أو أحد أهله شرح ابن بطال على البخاري -فيما قيل لنا-، وعبد الله الجشتيمي شارح الشفاء، وعبد الرحمن التغرغرتي شارح الصحيحين والشمائل، ومُحمد بن إبراهيم الأمزاوزي محشيه أيضا، وابن سعيد المرغيتي المؤلف في السيرة، وكذلك ابن العربي الأدوزي صاحب (منظومة السيرة)، وكابن مسعود المؤلف في رجال البخاري، وغيرهم في الفن، وكثيرين مِمَّن لَم نستحضرهم الآن، لكننا وإن ذكرنا استمرار تعاطي هذا الفن لا بد أن ننبه إلى أنه قد تقلص ظله كثيرا في الجيل الأخير إلا عند قليلين، فالإلغيون ومن إليهم لا يزال لَهم بعض اعتناء بالسيرة النبوية، حتى أن منهم من ترجم (نور اليقين) إلى الشلحة في سفرين، فكانت هناك نسوة يعرفن السيرة بالشلحة، ومن تلاميذ الإلغيين من لا يتوقف في غالب ما تشتمل عليه (المواهب) للقسطلاني، فضلا عن (الإصابة) و (سيرة ابن هشام)؛ كشيخنا الأستاذ مولاي عبد الرحمن البويزاكارني نزيل الرباط الآن، ولكن ليس هذا من الدراسة في مَجالسها، وإنَّما ذلك من جهود الأفراد لا غير مُطالعة ومراجعة.
ومُجمل القول: أن العادة المعهودة من الإكباب على هذا الفن في الرمضانات لَها آثار كثيرة في الاطلاع عليه، ولو في الجملة، سردا عند البعض، وتفهما عند آخرين، ومن عادتِهم إقامة حفلة عند اختتامه.
ألم يطرق أذنك وأنت في الحوز موسم البخاري المزوضي، وموسم البخاري البوعثماني الجدميوي، وموسم البخاري البوعنفيري، فإن أصل ذلك أن يتخذ يوم إتمام درسه يوم إقامة حفلة عامة، ثم شاع ذلك فدخلته التجارة حتى تَحول الْجَمع إلى غير ما هو له، فبقي عليه شرف الإضافة إلى البخاري فقط، سمة دائمة، وهذه العادة التي في مدارس الحوز من بنات المدرسة التيمجدشتية السوسية تنادي بأن ذلك الاعتناء إنَّما جاءها من سوس والأثر يدل على المؤثر، حتى ضعف ذلك في العهد القريب، فذهبت الآثار بعد ما ذهبت الأعيان، لا في الحاضرة ولا في البادية.

5 - علوم الحديث:
هذا الفن لازم لفن الحديث المتقدم، فتزدهر بازدهاره، وتضعف بضعف الاعتناء به، وقد رأينا شروحا على متونه ومنظومات منه حين ازدهاره بين السوسيين، فهناك منظومة (نُخبة الفكر) لِمُحمد بن سعيد القاضي العباسي، ونظم (النقاية) التي تَجمع فنونا منها هذا الفن لِمحمد بن الحسن الأمانوزي الأديب، وشرح (الطرفة) في الاصطلاح للحضيجي وغير ذلك، مِمَّا لَم نستحضره الآن، وهناك ترجمة (الأربعين النووية)، و (رياض الصالِحين) للنووي أيضا للإلغيين إلى الشلحة.

6 - النحو. 7 - التصريف. 8 - اللغة:
العلوم التي يعتني بِها السوسيون كانت كلها أذنابا في أنظارهم لعلم اللغة العربية لِمكانتهم من العجمة، ولا مُفتاح لِهذه العلوم إلا إذا دخلوا من هذا الباب؛ ليمكن لَهم بِها أن يتفهموا ما يريدون، وقد قال قائلهم في ذلك -فيما سمعت- وتنسب لِمحمد بن يَحيى الأصاريفي:
العلم شيء حسن ... فكن له ذا طلب
بالنحو فابتدئ وخذ ... من بعده في الأدب
وإن أردت بعد ذا ... جاها ونيل المطلب
فافهم أصول مالك ... واحفظ فروع المذهب
وهذا ظاهر لا بد منه لكل السوسيين بطبيعة الْحَال؛ لِكونِهم أجانب عن لغة الضاد، ولكنهم لا يكادون يتذوقون حلاوة أساليب اللغة حتى يبقوا دائمين على مزاولتها شغفا بِها على حد قول القائل:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبا خاليا فتمكنا
وحين تكون اللغة والنحو والتصريف أول ما يسبق إلى أذواقهم، قلما ينسونَها، وإن شاركوا في غيرها، فيعضون عليها بالنواجذ ويكبون على تحصيلها والزيادة فيها، ثم بِمقدار إكبابِهم عليها تتزحزح العجمة عن ألسنتهم، وتتمكن روح الأساليب العربية في أذواقهم، حتى تأخذهم نعرة ربما تكون شديدة للعربية، كأنها إرث أجدادهم، وحتى يكادوا يَمرقون من مساليخهم حنقا على من يلمزهم بالتقصير فيها، وفي دار الجرسيفي على الفاسي أعظم دليل على هذا كما يوجد أيضا مثال آخر في مرادة شعرية وقعت بين المراكشيين وبين أبي فارس الرسموكي، ومُحمد بن سعيد العباسي وحلبتهما، فقد اشمأز هؤلاء حين أرسل إليهم المراكشيون أسئلة منظومة على قواف متعددة، فقالوا لَهم أجيبونا بالنثر، إن استعصى عليكم النظم، فتبادروا زمرا يُجيبون كلهم تلك القوافي المختلفة بِما لا يقل عنها أحكاما، فيجيب كل واحد على حدة ، ومثل هذه الحمية مَحمودة ما دامت في دائرة التنافس المحوط بأدب الخطاب.
للسوسيين طريقة معبدة منظمة في تعليم اللغة والنحو والتصريف، فمن سلكها منهم يضمن له الفوز، وما ذلك إلا لأنَّهم أتقنوا هذه الفنون الثلاثة إتقانا، ولشدة حرصهم عليها، ولأنَّهم كلا شيء في الميدان العلمي إن كانوا في هذه مقصرين، وقد أثنى اليوسي على الطريقة التي يسلكونَها في التصريف في فهرسته عندما ذكر شيخه أبا فارس الرسْموكي، وكذلك شهد لَهم محمد العالِم بالتفوق ، وما لنا نذهب إلى البعيد وما في القريب يكفي، فقد أدركنا هذا الجيل الذي انقرض بسنوات (1349هـ)، ويعلم كل مطلع منصف أن العناية التي تلقاها هذه الفنون الثلاثة في جنوبي الأطلس، لا تلقاها في شماليه، من غير أن نستثني إلا أفرادا ينبغون بأنفسهم، وأما مَجالس الدراسة فلا، فقد أدركنا التسهيل، بل والكافية، مما يدرس عند الأدوزيين وغيرهم وما أكثر شروحهما هناك مَخطوطة، وعرفنا أناسا حفظوا منها أو حفظوها كلها، ثم لا يقرءون الألفية في الصفوف العليا إلا بالأشموني والصبان والموضح بِحواشيه تتبعا، والأساتذة يكون على ألسنتهم بلا مراجعة كل شواهدها، وكل القواعد التي تتعلق بالدرس فقد كان الحاج عابد البوشواري الهشتوكي على هذا النمط ، فقس كل هذا بِما كان معروفا في شمالي الأطلس قبل النظام الأخير، من كون الغالب الذي يَجب أن يتعالى إلى مثل هذه المنزلة، إنَّما هو نصابي فقط، يَملأ دلاءه بكثرة مُطالعة، ثم إذا صب شآبيبه الصيفية رجع جهاما، لا تبل منه بعد ولو قطرة، ثُم هو مع كل ذلك الاحتشاد، لا يتطاول إلى مثل التسهيل، وهذا كله لا يَخفى عن أحد عرف في الموضوع من الجانبين ما عرفنا، نعم أدركنا قليلين في الحمراء وفاس هُم النهاية في ذلك، ولكنهم أقلية على كل حال إزاء غيرهم، حتى إن الممتازين منهم في هذا الفن يعدون على الأصابع.
ثم يَجب أن يعرف أن هذه المزية وحدها لا تقتضي تفضيل جنوبي الأطلس على شماليه؛ لأن المزية لا تقتضي التفضيل، وما قيل في النحو والتصريف، يُقال في اللغة، فإن السوسيين لإتقانِهم التصريف إتقانا تامّا يعرفه كل من يلاقي السوسيين النجباء، ينفتح لَهم باب اللغة، ثُم كانوا لإكبابِهم على مراجعة القاموس والصحاح والمختار -وهي التي توجد عند غالبهم- عند كل شاذة وفاذة، أكثر من نعرفهم استحضارا لضبط الكلمات، وقد كانت خطبة القاموس مِمَّا يدرسونه ولا بد إزاء التحفة العاصمية.
أفلا يدل هذا على الاعتناء الذي نذكره؟ وأين هذا مِمَّا عرف عن غيرهم مِمن لا يَهتدون إلى استخراج كلمة من القاموس؟ حتى ليقع عليه من يُشار إليهم في مضحكات، لَم يزل شباب العصر الحاضر الماهر اليوم في هذا الفن يتداولونَها.
ثُم ليس المقصود من هذا كله إلا تبيين الحقيقة فقط، وإلا فسوس من المغرب الذي لا يتجزأ، ونعوذ بالله من أن يفهم من كلامنا ما لا يُراد منه، فحاشا أن نتخذ شعبنا الوحيد عِضين.
وبعد هذا كله، نعود فنقول: إن هذا الحكم لا يدل -كما ذكرنا قبل- على أن كل من بسوس بلغ هذه المرتبة ولا أن كل من لضم يكن من سوس غير بالغها، بل لا تزال سنة الكون تقضي قضاءها، فيوجد هنا وهناك نُجباء وبلداء، وإنَّما اتكأنا بِحكمنا على الغالب، وعلى ما هو سائر في الدراسة العامة لا غيرها من الْخَاصة.
إن من يتتبع رجال سوس يَجد في كثيرين منهم من ينص على إتقانه لِهذه الفنون: النحو، والتصريف، واللغة، كإبراهيم بن محمد بن عبد الله اليعقوبي الذي قال فيه معاصروه: آخر من أتقن علم التصريف، وكداود بن محمد السملالي الذي كتب في إعراب أوائل الأحزاب، وكمحمد بن إبراهيم البعقيلي الذي وصفه مطلع بأنه آخر من يَحفظ كتاب سيبويه، ويستحضره فهما، وكيحيى الجلموسي الملقب بسيبويه عصره، ومُحمد بن عبد الله حفيد الشرحبيلي الأصناكي المتفوق في النحو، وكان متبحرا فيه، يعلن ذلك تحدثا بنعمة الله عليه، وأحمد بن عبد الله اليبوركي التملي الماهر في النحو والتصريف، وكثيرين غيرهم مِمن ألفوا في النحو، ومؤلفاتِهم مشهورة لا نُطيل بذكرها، وآخر النحويين الأفذاذ العربي إبراهيم الأدوزي، وعبد الله التوضوئي، والْمَحفوظ الرسْموكي ثم الرداني، والْحاج عبد الحميد شارحو الألفية أو مَحشو شروحه، فقد ذكروا عنهم في النحو أنَّهم بواقع، فيستحضرون التسهيل وشرح ابن عقيل عليه استحضارا بله غير ذلك، وما ذكرناه في النحو نذكر مثله في التصريف؛ لأنَّهما شيء واحد لا يتجزأ عندهم، فلهم فيه أيضا مؤلفات، وفي جبال جزولة إلى الآن من متقني هذا الفن إتقانا عجيبا عشرات، ولا يزالون أحياء إلى الآن.
وأمَّا اللغة؛ فلا ينبغي لنا أن نغر القارئ فيحسب أن هناك من لَهم في اللغة مثل هذه المكانة في النحو والتصريف؛ لأن مقصودنا فيما نسميه معرفة اللغة: هي إتقان التصريف الذي هو شطر اللغة، ثم طول الممارسة لِمراجعة القاموس والمصباح والمختار، حتى يتقن ضبط الكلمات الاسمية والفعلية إتقانا، حتى ربما يتلو واحد منهم في اليوم كله في كتاب من الكتب الأدبية كـ: (نفح الطيب) مثلا الذي لا يتعمد حشر الكلمات الحوشية، ثم هو مع ذلك لا تَخلو صفحة منه من كلمات غير معتادة كثيرا، فيمرق لسان التالي بلا تَهدج ولا تصحيف ولا غلط في ضبط الكلمات اللغوية فضلا عن الضبط النحوي، ثُم لا يتوقف أن استمر يتلو بِجهر بين جَماعة لا يستحيون أن يردوا على الغالط -كما هو ديدن الإلغيين الجريئين كلما سَمعوا لَحنا مِمن يتلو أمامهم- فيدوم على ذلك النهار كله من الصباح إلى المساء، ثُم لا يَخفى عنه مِما يحتاج فيه إلى مراجعة إلا نَحو عشر كلمات، هذا ما أقصده؛ لأنني عرفت هذا وأدركته عيانا، وخالطت أربابه، ومارسته ولا شك أن هذا الذي ذكرته بِمثل ضرب هذا المثل دال لِمن أمعن النظر، وعرف كيف كان المغرب قبل الحياة الجديدة على سُمو وتمكن في النحو والتصريف واللغة؛ لأن التالي المطلق لسانه بِجهر بين السامعين يَحتاج إلى هذه الثلاثة كلها، وإلى المرونة التامة فيها.
أمَّا التآليف في اللغة عند السوسيين؛ فلم أستحضر الآن من آثارها إلا ما ذكر من حاشية لأبي فارس الرسموكي على الصحاح الجوهري ، ولكن هناك مؤلفات تدل على التمكن في هذا الفن، كشرح المقصورة المكودية للتازولتي التملي، وشرح المقصورة الدريدية للأسغركيسي الهشتوكي، وشرح الشمقمقية لأبي فارس الأدوزي قبل أن يظهر شرح ابن خالد الناصري، وشرح العبدونية أطلعنا على مفتتحه لِموسى الودريمي، وشرح الرسالة الزيدونية، وبعض قصائد المعلقات السبع لأبي فارس المذكور، وأمثال هذه لا يتصدى لَها إلا لغوي أو أديب ماهر كبير، وسيرى القارئ في مَبحث الأدب كتبا تدرس فتكون مادة كثيرة للألفاظ اللغوية للمعتنين بِها، كما أنه سيرى من آثار أولئك الأدباء ما يدل على ما ذكرناه من التمكن فيما يدل على ما ذكرناه من التضلع في اللغة، حتى إنهم ليتلاعبون بِها كأنهم من أبناء الشيخ والقيصوم، ومن حرشة الضباب في الصحراء، وهذه قصائد سوسية كثيرة تُتلى في مثل مجمع الإلغيين، فلا يتوقفون في أية كلمة، على حين أن غيرهم إن سَمعها فكثيرا ما يتوقف، ثم لا يستحي أن يقر بِجهله إن أنصف، وإنَّما يدرأ عنه عيب نفسه بالجهل بأن السوسيين مولعون بالألفاظ الحوشية.
إذا محاسنِيَّ اللاتي أدلُّ بِها ... كانت مساوِي فقل لي: كيف أعتذر؟
ثُم إذا قرأ الألفاظ الذي لا يعرفها من كلام شوقي أو عبد العزيز البشري أو شكيب أرسلان يبتلعها، ثُم لا يقابلهم بِما عسى أن يقابل به السوسي المسكين الذي تضلع من اللغة حتى صارت تفيض من أسلات يراعه بشعور أو بلا شعور، فهل هذا من الإنصاف؟

9 - البيان:
إن فن البيان والأدب كنتيجة للثلاثة المتقدمة قبلهما، وكزبدة تنتج عنها ولذلك لا نعجب إن رأينا عن كثيرين من أساتذتِهم عندما يترجمونَهم أنَّهم بيانيون، أو أنَّهم أدباء، ولكن لا نَخفي عن القارئ أننا لا نقدر أن نَحكم على كل نَحوي تصريفي لغوي بأنه بياني؛ لأن البيان وإن قلنا أنه كنتيجة عن تلك الفنون، لا بد له وراء ذلك من سليقة روحية تُمازج صاحبها، فيمكن له أن يتذوق كلام البيانيين، وأن يستروح روائح نكهتهم الأرجة، ونشك في أن آثار العجمة كانت تزول عن غالبهم، حتى تلطف أذواقهم لِهذه اللطائف، فقد عرفنا منهم اليوم من هو نَحوي ماهر لغوي متمكن وقد قرأ التلخيص وتفهمه، ثُم إنه مع ذلك بَينه وبين تلك الروح ما بين السماء والأرض، ولكن رغم كل ذلك نَجد من بينهم من يظهر أنه بياني حقّا، ولا أدل على ذلك مثل من نراهم أدباء، رقاق الشعور، دقيقي الملاحظة، وأيّا كان فإن البيان كعلم من العلوم يتدارسونه، فمنهم من يتصف به، ومنهم من يتخذه كفن فقط، يستكثر به معلوماته، إلى أن جاء الجيل الذي قبل هذا فزعم بعضهم أن غير الفقه والنحو ليس من بارود البلد -على حسب تعبيره- فيلقى غالبا تدريسه ظهريا، ولكن وجدنا آخرين لَم يلقوه ظهريا، كابن مسعود الذي له من بنات قلمه في البيان تآليف، وكالإلغيين الذين نرى بينهم من يتخلق به ذوقا ودراسة كما يظهر من أدبياتِهم، وكالأدوزيين الذين كانت أيضا من قلم قطبهم في الجيل قبل هذا مُحمد بن العربي آثار فيه حسنة، متنا وشرحا، وقد كان هذا الفن مزدهرا في العصر الإيليغي فرأينا فصاحة وذلاقة لسان كما سيلمس مِمَّا سيأتي عن الأدب السوسي عن قريب.
والْمُحصل أن البيان كان يدرس في (التلخيص) حتى رأينا بعضهم ينظمه، وفي (الجوهر المكنون) ولأبي سالِم الإجراري كتابة عليه، كما تدرس الاستعارة الكيرانية التي كتب عليها العربي الأدوزي، وابن المحفوظ السملالي، كما كان لابن مسعود مؤلف فيه شرحه الحسن الإجراري، ولابن العربي الأدوزي مؤلف شرحه في علم البديع.
نعم تقلص التوسع في درس هذا الفن تقلصا ظاهرا منذ مفتتح القرن الثالث عشر، حتى لا يذكر إلا في مدارس معدودة ذكرا قليلا، كالبونعمانية، والبوعبدلية والإلغية والأدوزية والجشتمية وتارودانت، وقليل غيرها. هذا ما نقوله في البيان، وأمَّا الأدب الذي يَحوم هذا العلم حوله؛ فسنستوفي فيه الكلام إن شاء الله في فصل خاص بالأدب وحده أخيرا.






عدل سابقا من قبل Admin في الثلاثاء يونيو 05, 2012 1:47 pm عدل 1 مرات
الشيخ جلال الدين أصياد
الشيخ جلال الدين أصياد
Admin

عدد المساهمات : 248
نقاط : 680
تاريخ التسجيل : 22/06/2011
العمر : 42
الموقع : www.toubkal-hilala.roo7.biz

https://toubkal-hilala.roo7.biz

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

أهم العلوم التي يعتني بها السوسيون قديما وحديثا Empty تتمة لما سبق

مُساهمة من طرف الشيخ جلال الدين أصياد الثلاثاء يونيو 05, 2012 1:41 pm


10 - الأصول:
لا مرية في أن حلاوة الأصول لا يمكن أن تظهر إلا عند المتعودين تطبيقه، وقد انقطع غالبا هذا التطبيق كفن معتمد في الدراسة الإسلامية العامة من زمن طويل، من القرن التاسع قبل أن تظهر سوس العالِمة، فلم يبق إلا تعاطيه فقط، وهذا ما رأيناه موجودا في الأدوار العلمية بسوس، ويوجد ما يدل على الاعتناء بتدريسه من التاسع إلى الآن، بل هناك فيه مؤلفون، كحسين الشوشاوي وعبد الواحد الوادتوني، ولِمحمد بن سليمان الجزولي الرحالة -وهو غير الصوفي- مقام كبير في هذا العلم، وهو من أواخر الثامن، ومفتتح التاسع.
ثُم ما زلنا نرى من يذكر بإتقان هذا الفن كأبي مهدي السجتاني، ومُحمد بن إبراهيم الهشتوكي ثم الحوزي، وابن صالِح الروداني، وكثير مِمن مضوا في ذلك العهد، وللجشتيميين يد حسنة في ذلك ينوه بِها بين تلاميذهم ولا يزال حيّا من أتقنه عليهم، فكان بارعا، وكذلك أحمد أضرضور الإجراري، كان قائما على هذا الفن، خصوصا أصول المذهب، فإنه فيها في غاية التمكن وأما مُحمد بن علي اليعقوبي شارح (المنهج)؛ فإنه من أعجب الناس مَهارة في ذلك، ثُم كان الأدوزيون والبونعمانيون مِمن يَجولون فيه، كالْمَحفوظ الأدوزي الذي لَهج به، وبه يبكر في التدريس صباحا، وكأبي فارس الأدوزي المولع بتدريس التنقيح بشرح الشوشاوي، وكابن مسعود الذي له حواش على الْمُحلى، ومباحثات مع من حشوه، فإنه فيه من الماهرين، وقد رأينا له فكرة تعد غريبة بِحسب بيئته، فإننا وقفنا له على رسالة كتبها إلى تلاميذه يقول فيها: «ونؤكد عليكم في حضور الدروس خصوصا البخاري المحاذي به متن المختصر، والحضور في درس المختصر، والمجموع للأمير» -إلى أن قال: «وأي خير عدمه من قرأ فروع باب من أبواب المذهب، وأتبعه بباب من أبواب البخاري المشتمل على الكلام المنور، فيستفيد فقه الأبواب، ومَدارك المسائل من خصوص كلام النبي- صلى الله عليه وسلم- وآثار أصحابه، وتابعيهم بإحسان، وإذا ساعد التوفيق، وراجع المتعلم ما انجرَّ إليه الكلام في الاستنباط، من قواعد الأصول، في أبوابها وتعالى بذلك إلى استحضارها في مَحالِها من الفروع، كانت النعمة أكبر ..... » إلخ.
هذه فكرة سوسي لَم تطرق أذنه إحدى الصاخَّات العصرية، قد اهتدى إلى الطريقة المثلى في وسط ذلك العصر المظلم الداجي في بَحبوحة سوس البادية القاحلة، وبِمقابلته مع من كانوا يذكرون مثله من الخليليين في كل المغرب قبل (1330هـ) يعرف مقدار اهتدائه بفكره الثاقب.
ثم إن هذا الفن بالنظر الإجمالي قل تعاطيه من أول القرن الماضي، وفي النصف الأول من هذا إلا قليلا، فهو إذن من الفنون التي شمسها على أطراف النخيل في مَجالس الدراسة منذ أكثر من قرن، ثم لَم يبق من تعاطيه إلا أثارة كباقي الوشم في ظاهر اليد.

11 - علم الكلام:
هذا الفن لِملازمته لتصحيح العقائد مِما لا بد -بطبيعة الْحَال- أن يعتني به كل مسلم له إلْمَام بعلم؛ فلذلك اعتنى به السوسيون حتى كان في المرتبة الثانية من العلوم التي يهتبلون بها أن عددت مثل النحو واللغة والفقه، وما إليها في المرتبة الأولى عندهم. وعددت الأصول والبيان والمنطق في المرتبة الثالثة، فقد ألفوا تعاطيه لِمن نَجب من تلاميذهم، وذلك في غير الصبابة الموجودة في (مقدمة ابن عاشر) التي وُضِعت للمبتدئين هي وشروحها فقط، بل إنَّهم يدرسون أيضا (السنوسيات) وأمثالِها كـ (إضاءة الدجنة) للمقري، وقد اطلعنا لَهم على مؤلفات في الفن، ابتدئت فيما نعلم سلسلتها من أواسط القرن التاسع، عهد عبد الرحمن الكرامي، صاحب الشرح على البرهانية للسلالكي، ثم توالت الحلقات في كل القرون بعدها على أيدي كثيرين كأحمد (التيزركيني) المؤلف في الفن، وكعيسى السجتاني، ويبورك وأخيه أحمد السملاليين، وعلي بن أحمد الرسْموكي، الكاتبين على السنوسيات، ثُم لَم يزل ذلك الفن يؤخذ عنهم في هذه الكتب الوسطى، ولا نعلمهم تطلعوا إلى مثل كتاب (المواقف) ، وكتب البيضاوي، وذلك ما وجدناه يتعاطى إلى الجيل الذي أدركناه، فقد أخذنا عن أهله من متون الفن، ولكن يظهر لنا مع استرسال هذا التعاطي أنهم في الفن جامدون، ولَم يعطوا -والحق يقال- عقولا واسعة، يُمكن لَهم بِها التوسع، كما كان عند غيرهم من علماء العجم في الشرق. فقد كان مذكورا محمد بن أحمد الرسْموكي وأخوه نزيل (تَامَانَارْت) الذي قيل فيه: إن مثله يقل نظيره في البوادي؛ لبراعته وتفوقه في الفنون، ثُم علمنا بعد ذلك مِمن يَخوضون في هذه الفنون، مثل أحمد الرسْموكي الفرضي، ومُحمد بن أحمد السملالي، ومنصور بن مُحمد المومني الأديب، وكذلك رجال المدرستين: الخضيجية والهوزيوئة، ثُم يتناقص الاعتناء به إلى هذا العصر، حتى لنجد كثيرين بارعين في فنون لا يندمون على عدم إلمامهم بِهذا الفن، وهذا هو الدليل الصريح على ما ذكرناه.

12 - الفقه:
إذا ما اعتز ذو علم بعلم ... فعلم الفقه أولَى باعتزاز
فكم طيب يطيب ولا كمسك ... وكم طير يطير ولا كباز
مضمون هذين البيتين اللذين حفظناهُما في الْخُطوة الأولى التي خطوناها في مَجالس الدراسة إلى تعلم الفقه، هو الْحَجر الأساسي في الاعتناء الشديد الذي كان لِهذا الفن، وكان من أول نشأته بِهذه المثابة؛ لأنه زبدة نظر طويل في الأدلة من القرآن والسنة، فكان عارفه يستدل بِمعرفته إيَّاه على أنه متقن لتلك الأدلة التي لا يتقنها إلا الْمُجتهدون الكبار في العصور الأولَى، وناهيك بِهذه المرتبة، ثم لَمَّا صار علما خاصّا يؤخذ بعد ما امتاز على حدة عن القرآن والحديث، كانت له أيضا هذه المثابة نفسها؛ لأنه قانون الأمة، ومصدر تشريعها، ثُم كان أكبر داع لرفعة شأن صاحبه.
وقد علمنا أن سوس لَم تدخل في غمار المشتغلين بِهذه العلوم إلا من مفتتح الْخَامس، على ما عندنا الآن من الأدلة التاريخية، فافتتحت عهدها بالشيخ مُحمد (وجاك) الذي وصفه أستاذه أبو عمران بأنه فقيه حاذق .
ثم رأينا آخرين متتابعين؛ كأبي يَحيى في السابع، والجزولي ابن عمه نزيل فاس في الثامن شارح (الرسالة) بشروح شتى، ثم احتفل الفقه في التاسع فظهر فيه كبار، كسعيد الكرامي شارح (الرسالة)، و (المختصر الحاجبي) الفرعي، وعبد الواحد الرجراجي شارح (المدونة)، وداود التملي صاحب (أمهات الوثائق)، ثُم نشأت بعدهم طبقة أخرى في العاشر؛ كالحسن بن عثمان التملي خريج الونشريسي، وأحمد التيرزكيني من تلاميذ ابن غازي، ومُحمد بن إبراهيم الشيخ التامانارتي الذي أحيا جزولة علما، وولديه إبراهيم ومُحمد العلامتين في الفقه وغيره، وأحفادهم الكبار في التفنن في علوم الشريعة، وأحمد بن علي الرجراجي الهشتوكي شارح (الرسالة) و (المدونة)، كما قيل، وحسين بن داود التاغاتيني الرسْموكي شارح (الرسالة) أيضا، وشارح (المختصر الحاجبي) الفرعي، وشارح (نظم ابن جُماعة) الفقهي، وسعيد الهوزالي القاضي الجليل، صاحب أجوبة موجودة، وعلي بن أحمد الحياني التامانارتي نزيل درعة، وجامع (نوازل ابن هلال). ثُم تلتها طبقة أخرى كبرى في الْحَادي عشر، كعيسى السجتاني القاضي المفتي الكبير، صاحب الفتاوي المجموعة، وعبد الله بن يعقوب السملالي صاحب (الحاشية) على (المختصر) الخليلي، وشارح (جامع بهرام)، وعلي بن أحمد الرسْموكي الفقيه العزيز النظير في التمكن في كل العلوم، بله الفقه الذي أبقى فيه بالتأليف ما أبقى، وعبد الرحمن التامانارتي القاضي البارع، وعلي بن أحمد البرجي الرسْموكي جامع (الأجوبة البرجية) المشهورة الكبرى، وعبد الله بن إبراهيم التملي صاحب (أجوبة مَجموعة)، وعبد السميح الأمزالي صاحب (مَجموع كبير) في الفتاوي، ثُم تلتهم طبقة أخرى في الثاني عشر؛ كأحمد الرسْموكي الفقيه الفرضي نزيل الْحَمراء، صاحب المؤلفات الفقهية المشهورة، وأحمد بن مُحمد العباسي صاحب (الأجوبة) المشهورة، وحاشية على (المختصر)، وأحمد الصوابي الذي له أيضا أجوبة فقهية، ومُحمد بن علي الهوزالي مترجم (خليل) إلى الشلحة، وأحمد أحوزي التملي ثم الدرعي، صاحب المؤلفات في الموضوع، ومُحمد بن أحمد الحضيكي شارح (الرسالة)، وله غيرها في الموضوع، ومُحمد بن مُحمد اليعقوبي السملالي العلامة في الفقه وغيره، وإبراهيم بن مُحمد اليعقوبي السملالي الفقيه البارع، وأحمد الجرسيفي المفتي، وكثيرين غيرهم. ثُم تلتهم طبقة أخرى في الثالث عشر؛ كإبراهيم التاكوشتي المرابط بين يدي بناني وطبقته عشرين سنة، ثم رجع بَحرا غطمطما يَخضع له كل السوسيين، حتى أكابر فقهائهم المبرزين، وهو الذي قال فيه الجشتمي: (وهو الذي في عصرنا نستفتي)، في رجزه المشهور، وكأحمد الهوزيوي شيخ الجماعة في عهده، وعمر بن عبد العزيز الجرسيفي خريج أبي العباس الهلالي، وصاحب الأفهام الغريبة، ومؤلف فقهيات جليلة، منها (النظائر) من المختصر، والقاضي مُحمد بن صالِح نزيل ردانة ومُحمد بن أحمد الأدوزي شارح (المرشد المعين)، وعلامة جزولة في عهده، ومُحمد بن إبراهيم الثوري الرسْموكي الخريت الذي لا يضل العجيب الشأن، صاحب مؤلفات شتى في الفقه مُحررة، ومُحمد الأمزاوري العبلاوي، المرجوع إليه من نَحو أبي زيد الجشتيمي فمن دونه، وعلي بن سعيد الإيلالني، وولده مُحمد الفذين في التفوق في هذا الفن، وعبد الله ابن الشيخ الحضيكي الذي لَم يتخرج إلا من سوس ولَم يعده، ثم قام بِمثل الدور الذي قام به الرهوني بعده؛ نَحو (حاشية بناني) فيتتبع منتقداته على الزرقاني، فيرد أو يصحح النقد ، وكَمُحمد الإزنكاضي الفقيه الماهر، ومُحمد بن يوسف، وابن عمه مُحمد بن أحمد القاضي اللذين نالا شفوفا في قرية (الرُّكن)، وكمحمد بن الحاج التازلتي التِّيملي، المفتي العزيز المثيل في الإفادة والإفتاء، وكأبي زيد الجشتيمي صاحب (الأرجوزة) الشهيرة في الفقه، وكالحسن بن الطيفور (السَّموجني) علامة تزنيت المحكم فيها، ومفتيها الذي يقبل ويرد بذهن غواص، مؤسس على القواعد الأصولية، وله (مَجموعة فقهية) كبرى، وكإبراهيم المحجوبي المتخرج من تارودانت ومن القرويين ومن الأزهر، فكان زينة عصره في مصره، وكأحمد (أضَرْضور) الفقيه الأصولي المجلي في حلبته، وكسعيد الشريف الكثيري الفقيه المحض القيوم على الفقهيات حق القيام، وكثيرين من أساطين هذا العلم في ذلك القرن. ثم تلتهم طبقة أخرى في النصف الأول من هذا القرن من الذين اندرجوا اليوم، فكان في مقدمتهم أحمد بن إبراهيم السملالي الساحلي، الذي كان بِمثابة الفقيه السباعي المراكشي، يُملي النصوص عن ظهر قلب لمستفتيه، وكان في جَمع النظائر الفقهية غريب الشأن، ومُحمد بن العربي الأدوزي مفتي ولتيتة في عصره، والْحاج أحمد الجشتيمي الفقيه المرجوع إليه في المعضلات، ومُحمد (أعْبو) الفذ العالي الكعب في الفقه، ومُحمد بن مسعود، والمحفوظ الأدوزي، وأبي فارس الأدوزي الذين تكونت منهم حلبة ما منها إلا مجل، حتى كانوا مضرب الأمثال، وأبناء الأعمش؛ كمحمد الكبير، ومُحمد المختار، وأحمد دجنا، وهو البيت الجاكاني التيندوفي، المستحضر غاية الاستحضار في الفن، حتى صار حديث الركبان ومضرب الأمثال، من تامانارت وما إليها إلى مدينة (تيندوف)، والحاج أحمد بن مُحمد اليزيدي المتخرج في كيفية الإفتاء بأحمد بن إبراهيم السملالي، فكان نسخة منه، فقلما يَحتاج إلى مراجعة، كأن نصوص شراح المختصر المتداولة عندهم نصب عينيه، وعلي بن عبد الله الإلغي المتصدر للقضاء والفتوى زهاء خَمسة وأربعين عاما، لَم ينقض له حكم، ولَم ترد عليه فتوى، إلا تَحلة للقسم مع قلة ذلك جدّا في معاصريه، إلى كثيرين من معاصريهم.
هكذا كان فقهاء سوس، طبقا عن طبق، فإنَّهم لكثرتِهم ينبغ منهم أناس كمثل هؤلاء الذين ذكرنا بعضهم، فيكون لَهم شفوف عجيب في كل جيل، فدحضت بذلك مقالة عبد الله بن عمر المغضري الذي صدرت منه أواسط العاشر، وهو الذي قالَها بعد رجوعه من سوس إثر زيارته لِمحمد الشيخ السعدي إذ قيل له: كيف رأيت السوسيين؟ فكان مما قال: وفقهاؤهم ضعاف الفتاوي، فإن كان صادقا- وهو الظن به- فيمن أدركهم ورآهم؛ فقد تبدل الْحَال عن ذلك، تَحت ظلال أواسط الدولة السعدية، ثم في عهد الدويلة التازروالتية، ثُم في عصر الدولة العلية العلوية، وكل من له اطلاع يعلم أن هذا الفن في المغرب كله، كان دائما بين مد وجزر، فكأن هذا الوصف، إن أردنا التدقيق مِما ينسحب أيضا على سوس الفقهية؛ لأنَّها دائما عضو من جسد المغرب الملتحم في الدراسة، فالقطب هو فاس ثُم الْحَمْراء، ومنهما تستقي كل طبقة طبقة، فمتى علت الدراسة هناك علت في الأطراف، وإن حدث فيها تأخر سرى التأخر في مَجموع المغرب، لا جميعه ؛ لأنه ربّما يكون في الأطراف أحيانا كفلتة من هو أعلى وأسنى مِمن في مَجالس فاس والْحَمراء؛ كما قد يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر.
ذلك ما يظهر لنا حول دراستنا للموضوع في القطر السوسي، فقد تراءى لنا أن هذا الفن وإن كان دائما يكب على تعاطيه وتفهمه غاية الإكباب، لَم يكن دائما في مستوى واحد، كما نرى مثل هذا عينه في فاس والْحَمراء، فيكون تأثر الأطراف مِما يقع منهما، وربّما يكون لَها تفوق عليهما على قلة ذلك في بعض الفترات، يقع كل ذلك مع عدم انقطاع البعثات السوسية إليهما وإلى (تامكروت) من الحادي عشر، بل وإلى الأزهر أحيانا من قديم.
لَم يزل هذا الفن في علوه مع تفاوت مراتب علوه، إلى أن مضى الربع الأول من القرن الماضي، فظهر لنا أنه بدأ يتقلص منه ذلك الاستبحار الذي نراه في الهوزيويين والحضيكيين ومن قبلهم، فلا نرى براعة إلا في أفراد غير كثيرين بالنسبة إلى من قبلهم، فتأخر بذلك سير هذا الفن عن الفنون العربية التي لَم تكن مرتبتها مائلة إلى الإسفاف بعد، وقد أدركنا من الجيل الذي عرفناه عدم إمعان كثير في هذا الفن، بِحيث يساوي مرتبة إمعانَهم في العلوم اللغوية العربية إلا عند الأدوزيين أو الجشتيميين، أو عند الأستاذ البونعماني ابن مسعود، فهؤلاء لا يزالون مكبين على فن الفقه، ويستحضرون كل ما في المعيار القديم، بله ما كتب في النوازل الأخرى في سوس، من فتاوي السوسيين المجموعة وغيرها، وأما غيرهم فيقتصر على ما هو أدون من ذلك بكثير، حتى أن فتاويهم لا تعدو نصوصها التي ينقلونَها ما في التسولي وما في التحفة والزقاقية والعمل، ومتن المختصر، وبعض شروحه، ولا نرى ذلك التوسع الذي نراه عند أولئك الذين نَجدهم يدعمون فتاويهم بنصوص مستقاة من المعيار والزرقاني وحواشيه، ثم يردفون ذلك بأصول مذهبية، يستشهدون فيها بكلام القرافي وصاحب المنهج وكلام مذيله، والشروح التي عليهما، وقد يتوسعون إلى سوق القواعد الأصولية العامة، حتى أننا رأينا لبعضهم فتيا واحدة على هذا المنهج الموسع خرج مؤلفا خاصا ، وما أكثر أمثال هذه المؤلفات عند من ذكرناهم من الأدوزيين والجشتيميين والبونعماني.
هذا هو الذي أدركناه، ثُم لَم تنشب طبقة الفقهاء الفطاحل الذين كانوا تيجان سوس الفقهية أن درجوا، فلم يَبق الآن وراءهم مِمن يُمكن أن يسدوا مسدهم إلا القليل جدا جدا، وإن كان لا يزال هنا وهناك من لَهم استبصار بالفن، ويعرفون كيف النزع في قسيه، ولكن الدراسة الفقهية اليوم من سوس في الغرغرة، كما وقع لغير هذا الفن، لإقفار المدارٍس، وانطواء الْهِمم، وفتور العزائم، لِما دبَّ إلى مَجموع قوى الأمة المغلوبة من الانْحلال تَحت هذا الاحتلال .

13 - الفرائض. 14 - الحساب.
جَمعنا هذين الفنين في قَرَنٍ واحد؛ لأنَّهما كذلك عند السوسيين، وقلما يبرع أحدهم في أحدهِما إلا وبرع في الآخر، والفرائض جزء من الفقه، يشملها كل ما ذكرناه عن الفقه، وإنَّما أفردناها لأننا نرى للسوسيين نَحوها التفاتا خاصا، ربّما كان عند بعض الأفراد أحظى من غيره؛ ولذلك لَم يدب إليه الضعف الذي ذكرناه عن الفقه مُنذ ولى صدر القرن الماضي، فأدركنا منه ازدهارا في كل المدارس السوسية في جَميع الْجهات، ولكون السوسيين يولعون به كثيرا، كان بعض الْحُذاق الحضريين يسميه: علم السوسيين، وقد عرفنا أناسا امتازوا في الأدوار العلمية السوسية بالوصف به على الخصوص، وألفوا فيه؛ كعلي بن أحمد الرسْموكي الذي شرح (فرائض ابن ميمون) كما له مؤلف آخر رأيناه، وكأحمد بن سليمان الرسْموكي الفرضي المولع بِهذا الفن، فألف فيه مؤلفات شتى جَمعت فأوعت، وهُناك بعضهم ألف فيه بالشلحة، فترى الأميين يُحاولون بواسطته مُناظرة الفقهاء في تصحيح المسائل، وقد وضع به لَهم هذا الفن الجليل على طرف الثُّمَام، وكيبورك شارح (فرائض المختصر) وقد عرف أبو القاسم التيفنوتي نزيل درعة بالسرعة باستخراج المتطلب من تصحيح مسائل الفن، وكذلك عرفنا من المعتنين بالتأليف في الحساب إبراهيم الزنتلي السملالي من أهل التاسع، صاحب الأرجوزة المشهورة بسوس، وقد ذيلها أبو فارس الرسْموكي، فشرح الأصل علي بن أحمد الرسْموكي، ثم ذيلها أيضا أحمد بن سليمان الفرضي، فشرح الأصل مع ذيله بشروح متعددة، ولَم يزل هذان الفنان يعتنى بِهما، يدرسان في الرمضانات خاصة بعمل تصحيح المسائل، حتى أدركنا من المشيخة الِمتقنيها البارعين فيما عمر الإجضييي التملي، وإبراهيم (بيرعمَان) الساحلي، ومُحمد بن علي إجيج، ومُحمد بن مسعود الذي له فيه مؤلف، وآخرين لَهم شفوف تام في ذلك -ولا يزال أناس أحياء إلى الآن من البارعين فيه، وأمَّا المشاركة بين هذين الفنين وبين الفنون الأخرى؛ فإن النادر كل الندور أن تَجد خاليا منها، والمقصود بالْمُشاركة استحضار كيفية تصحيح المسائل على ذهنه بديهة، ويستوعب الشاذ من غيره، وقد تَمرن على العمل كل التمرن، وإنَّما يفوته ما يحظى به الماهرون من الاستبحار في مسائل الفن ودقائقه التي قلما يَحتاج إليها إلا في مثل المناسخات المتشعبة، وإن كان فيهم أجمعين كل ذلك عن نظر لا بديهيا، متى دعت إليه الحاجة. هذا ما أقصده بالمشاركة، وذلك هو ما يسود حتى على أقراننا اليوم، وكثيرا ما يقولون: من لَم يستطع تَحرير مسألة من المناسخات بديهة في وسط السوق، وهو يقايض في بضاعته؛ فإنه لا يستحق أن يكون مِمن يَحملون اسم الفرضي.

15 - الهيئة:
نعني بالْهَيئة: كل ما يتعلق بعلوم الأفق؛ من علم تتبع سير النجوم، وعلم ما يُعرف به ذلك من الآلات، كالإسطرلاب والربع ونَحوهما، وعلم التوقيت، وعلم الرخاميات، وما إلى كل ذلك مِمَّا هو معروف قبل العصر الحديث، وقد كان للسوسيين يد طولى في هذا الفن الجليل، فكان عبد الرحمن بن عمرو البعقيلي الذي لقبه أحمد الذهبي بالجرادي -لِحكاية- آية في كل ما يئول إلى هذه الناحية، وهو صاحب (قطف الأنوار من روضة الأزهار) وشرح على (السيَّارة)، وهو فذ في عصره، لا يوجد له في براعته في هذا العلم من مثيل، وللرداني ابن سليمان نزيل الحجاز ومدفون دمشق في هذا الفن مهارة أدته إلى اختراع له فيه ارتفع به مقامه بين المخترعين في الإسلام؛ كما لأحمد الولتي الطاطائي المؤقت في الْحَمراء براعة فيه أيضا، وأحمد بن عبد الله بن يعقوب السملالي الذي ألف فيه مؤلفا، وكذلك ابن سعيد الميرغيتي صاحب (المقنع)، كما كان لأحمد ابن الشيخ الحضيكي بِهذا العلم اعتناء كبير يدرسه للتلاميذ، ومن قديم كان لسعيد الكرَّامي فيه ولأهله يد، خلدت فيه بالتأليف ما خلدت، ويظهر أن الاعتناء بِهذا الفن لَم تتصل حلقاته؛ فقد أدركنا الجيل الذي قبلنا يَجهل جلهم هذا الفن، إلا ما في المقنع لا غير، مع أن آلاته من الإسطرلابات والأرباع موجودة عند الأزاريفيين والإجراريين وغيرهم، فكان وجدانها سبب أن اعتنى به بعض الإجراريين المتأخرين حتى حوول أخذ الفن أيضا عن الأستاذ ابن مبارك الغيغَائي، أو من فاس، فأبقيت بذلك صبابة عند السوسيين إلى الآن، ومؤقت البيضاء الحالي من آثار هذه الصبابة، وكان لابن العربي الأدوزي اهتمام بِهذا الفن، فزاول علم الرخاميات، ثم انتهى ذلك الدور إلى الأستاذ المؤرخ مُحمد بن أحمد الإجراري وآله.
ثم رأينا اليوم في تزنيت من بين تلاميذ قطبي هذا الفن: الأستاذ العلمي الفاسي، والأستاذ ابن عبد الرزاق المراكشي، بعض السوسيين، ربّما يَحيا بِهم الفن في سوس، والمستقبل كشاف، و (المقنع) لا يزال يروج إلى اليوم على قلة ما فيه من قواعد هذا العلم.

16 - المنطق:
نرى هذا الفن يتعاطى منذ تعاطي العلوم من فجر النهضة العلمية بسوس، فنجد في غالب من يترجمون بالتفنن من علمائها ذكر هذا الفن من بين العلوم التي يتقنونَها؛ كمحمد بن مبارك التيوتي، والحاج عمرو بن يعزى السملالي، ومُحمد بن عبد الواسع الرسْموكي، وأحمد بن سليمان المزواري الرسْموكي، وكثير من غيرهم، كما رأينا أيضا بين مؤلفاتِهم جانبا لِهذا الفن؛ فلعبد الرحمن الجرادي البعقيلي فيه مؤلف في الرجز، شرحه يبورك السملالي، ثُم لَم يزل درسه طوال هذه القرون، من عهد المدارس الحضيكية والهوزيويَّة والجشتيمية، وقد أدركه ضعف منذ ولى الصدر الأول من القرن الماضي، فتقلص الاعتناء به إلا عند أفراد، وممن أدركناهم يعتنون به الأستاذان المحفوظ الأدوزي، وابن مسعود البونعماني الذي له على شروحه مباحثات، وكذلك الحسن بن أحمد السملالي، وأحمد بن إبراهيم الإجراري، وعبد الرحمن السالمي الإيسي، وأما سواهم من معاصريهم فقلما يلتفتون إليه.

17 - العروض:
للعلم الأدبي استدعاء لإتقان هذا الفن الذي تصفف طرر قوافيه على جبينه؛ ولذلك كان يزدهر بازدهار الأدب، ويَجدب بإجدابه، وهذا هو الواقع في هذا الفن بسوس، فقد كان في عهد النهضة الأدبية السوسية الأولى مدمجا في الدراسة العامة فتتناوله أقلام التأليف؛ فقد ألف فيه أبو فارس الرسْموكي، ثم أحمد بن سليمان الرسْموكي الفرضي، والحسن بن أحمد، وعلي بن أحمد الرسْموكي، ولغيرهم منظومة في الفن قصيرة، ثُم لَمَّا انتعش الأدب ثانيا في العهد الأخير رجع إليه كذلك الاعتناء، فيدرس بعضهم (الخزرجية) وبعضهم (الحمدونية) ومبدأ نَهضته الأخيرة من أوائل القرن الماضي، وكان معروفا بين المراكشيين الأستاذ اليزيد الروداني شيخنا العروضي، فإنه من تلاميذ تلك الطبقة، وفي الجيل الذي أدركناه بسوس يوجد الاعتناء بالأدب؛ كالمدرسة الجشتيمية والإلغية والأدوزية والبونعمانية، فقد ألف فيه ابن مسعود، ثم لَمَّا فتر دولاب التدريس اندمج في المجموع.

18 - الطب:
لا تزخر دراسة هذا الفن بطبيعة الْحال -قبل العصر الحديث- إلا في الحواضر، وفي أثناء أذيال المدينة التي تَحتاج إليه غالبا، وأما في البادية حيث الجو صقيل، والْهواء صحيح، والأجسام مستقيمة، والأمزجة معتدلة، فأنى يكثر الالتفات إليه إلا عند أفراد، وهذا هو الذي وقع في سوس، فإننا لَم نعتده ذا انتشار في التأليف أو في التدريس إلا قليلا، فأول من عرفنا له فيه مؤلفا: حسين الشوشاوي الراسلوادي، وهو من أهل التاسع، ثُم أحمد بن عبد الله بن يعقوب السملالي، ومُحمد بن علي البعقيلي صاحب (الطب البعقيلي) الشهير، وكلاهُما من أهل الحادي عشر، ثُم لأحمد بن سليمان الرسْموكي الفرضي، وهو من أهل الثاني عشر، وحوالي هذا الحين كما نظن كان تأليف كتاب طبي بيد بعض الأزاريفيين، ثم جاء الباقعة الغريب الشأن أحمد ابن الشيخ الحضيكي، حافظ التذكرة للأنطاكي وكتاب الزهراوي حفظا، حتى ليحدث عن لفظهما بلسانه عن ظهر قلب في درس الفن، فكان مما يدرسه مؤلف ابن سينا في الطب بشرح ابن رشد، وكان مولعا بِهذا الفن، حتى أدرك فيه الغاية، ونرى أنه فريد من مفاخر المغرب من هذه الناحية، وقد ذكر كل هذا بعض من أخذوا عنه ، ورأينا أيضا أحمد التاهالي الرحالة أتقن الطب، وامتاز به بين معاصريه كالمتقدم، وهُما معا أدركا أول الثالث عشر، ثم انطوى الفن، ولَم نرَ له ذكرا في التدريس أو في التأليف، إلا أن بعض أناس يذكرون بالتطبب، حتى أن منهم من يتسلسل فيهم أبا عن جد؛ كأبناء مُحمد بن سعيد الكرامي، المشهور بإتقان هذا الفن، من أهل مُختتم التاسع، وربما كان المذكورون أخيرا بالطب؛ كالحاج ياسين الوَسخيني، إنَّما يستقون مِما هناك من بعض الكتب ومن التجارب، لا من الدراسة المنظمة، وقد كان للشيخ الإلغي ولوع بِهذا الفن، فافتتح فيه مؤلفين: أحدهما بالعربية، والآخر بالشلحية، شغل عن السير فيهما كثيرا، أو كان الثاني تاما، لكننا لَم نقف عليه، وكان من أكثر معاصريه استحضارا للأدوية المفيدة في كل داء رآه، مع إكبابه على مراجعة كتب الفن، وخزانته زاخرة بكتب الطب على أنواعها، وللحاج عبلا -عبد الله- الإلغي، والد الأساتذة، يد طولى عملية لا علمية فنية.
هذا ما عندنا في هذا الفن، فيتلخص أنه ليس بِمدروس بين العلوم عند السوسيين إلا قليلا، وأن المعتاد إنَّما هو الطب التجريبي الساذج.

19 - الأسانيد:
شاع في المغرب من قديم قلة الاعتناء بِهذا الفن، وإن لَم يكن يَخلو في كل وقت مِمن يتعاطاه؛ لِما امتاز به المغاربة من الإكباب على الدراية أكثر من الرواية، فكان لسوس بين أرجاء المغرب مثل هذا الوصف بعينه يقل فيه الالتفات إلى ذلك، وإن لَم يكن يَخلو مِمن يلتفتون إليه؛ فلذلك يَجد المطلع على حياة رجالاتهم فهارس ورحلات امتلأت بالأسانيد والاستجازات، وقد كان هذا مذكورا في التاريخ من مفتتح القرن العاشر، ثم لَمَّا جاء عبد الرحمن التامانارتي في القرن الحادي عشر أظهر ذلك في كتابه (الفوائد الجمة)، فأبان اعتناء مشيخته ومشيختهم بوصل حلقات الأسانيد، ثم جاء أحمد أحوزي التيملي نزيل درعة بفهرسته المشهورة بعد صدر القرن الثاني عشر، ثُم محمد بن يحيى الأزاريفي بكراسة شحنت بأسانيده في التصوف، وبأخرى بأسانيده في العلوم، ثُم تبعه أولاده وأحفاده في ذلك، ثُم التَّاسجدلتي، فعندنا له فهرست حسن، ثُم مُحمد بن إبراهيم آل ابن يعقوب التاتلتي ثم التاجرجوستي رفيق أحمد الغربي الشهير في الرباط في فهرست له حسن، وقفنا عليه أخيرا، يدخل في هذا الموضوع، ثم الحضيجي الذي رد العناية بِهذا الفن جذعة في فهرسته وفي إجازاته المتعددة، فتلميذه الأسغاركيسي فيحيى الجراري ، فأبو مدين الدرعي الرداني المعتني في رحلته بأخذ الإجازات في أواسط الثاني عشر، فعبد الله السجتاني المسكالي نزيل تونس في القرن الثاني عشر.
فلكل واحد من هؤلاء فهرس خاص، وقد رأينا بعض أسانيد لبعض السوسيين سواهم عن بعض الفاسيين؛ كبناني وجسوس وعمر الفاسي وابن سودة وغيرهم، ثم أوصلوا السند بِمن بعدهم؛ كعلي بن سعيد، وولده مُحمد بن علي اليعقوبيين، اللذين يتصلان بالمتقدمين، ثُم ضؤل الاعتناء، وتقاصرت الهمم، حتى لنرى مثل أبي زيد الجشتيمي يزهد في ذلك تورعا واحتقار نفس، وإن كانت له بعض إجازات رأيناها، لكن ولده سيدي الحاج أحمد أظهر اعتناء غير قليل بِهذه الجهة، فوصل حلقات بأخرى بِما صنعه في حجته حين استجازَ من لقيهم، ثم أجازَ
بعد رجوعه فأبقى له بذلك ذكرا في آثار هذا الفن، وكان لأبي العباس التيمجيدشتي يد في إحياء فن الأسانيد، فاستجازَ وأجاز، فانتشر ما انتشر عنه بواسطة أصحابه كعلي الدمناتي، وأحمد الرسْموكي البوعنفيري، ومسعود المعدري، والْحَاج مُحمد أباراغ البعمراني، والعربي الأدوزي، والشريف الكثيري، وكان لابن العربي أيضا بعض عناية، فاستجازَ الْحَسن التيمجيدشتي، والأمين الصحراوي وغيرهما. ثُم أجازَ الكثيرين من بينهم خاتِمة المسندين بسوس سيدي مُحمد بن مسعود البونعماني، فقد وقفنا له على إجازة كبرى لبعض تلاميذه أسند فيها عن ابن العربي وعن والده مسعود، وعن الْحَاج ياسين الواسخيني، وعن الْحَاج أحمد الجشتيمي، وعن مُحمد بن مُحمد الجزولي، وعن مُحمد الضوء السباعي، وعن مُحمد أبارغ، وعن أحمد بن إبراهيم الإجراري وآخرين، وهذه العناية لَم نر لَها نظيرا من معاصريه في تلك الجهة، وكذلك رأينا مثل هذا الاعتناء للعلامة أحمد من آل حسين الطاطائيين من أصحاب أكنسوس، ثم كان آخر من رأينا لَهم هذه العناية، فأجيف الباب بعدهما، ويوجد بين الرحلات السوسية الحجازية، كرحلتي أحوزي الموجودتين في تامجرت، وكالأسغاركسيَّة -إن تَمت وعندنا بعضها- والأزناكيَّة- إن وجدت- والمدينيَّة الردانية الموجودة في تامجروت، والعينية إن كان اعتنى صاحبها بِهذا الفن فيما لَم نره منها وهي مبتورة، وفي غيرها آثار من هذا الفن، فإن الرحلات التي كتبت في الثاني عشر وهي عدة -منها هذه المتقدمات- تأثر أصحابها برحلتي الناصري والعياشي اللتين لَهُما اعتناء كبير بِهذه الناحية، وقد اطلعنا على بعض آثار في الموضوع لبعض الجرسيفيين استجاز بها في المشرق، كما اطلعنا على ذلك لأحمد العباسي، ولبعض السملاليين عن باب السوداني ولغيرهم عن اسكلانط والغربي وعن التونسيين والمصريين.
هذا كله مما يدل على ما ذكرناه من أن الاعتناء بِهذا الفن الذي يُعد كنسب للعلوم لَم ينقطع في سوس، وإن كان يضؤل أحيانا، ثم هو مع ذلك لَم يكن ذا أهمية كبرى عندهم، حتى الإجازات- وهي عندهم أخص من الأسانيد في الجملة، إذا لَم تذكر فيها الأسانيد، وإلا فإنَّها من بنات الموضوع- يقل تعاطيها في سوس بين المتخرجين والمخرجين إلا قليلا.

20 - علم الجداول:
ويُسمى أيضا: علم الأوفاق، وسر الحرف، وهو علم صحيح ذكره ابن خلدون وغيره، وقد صحَّ أيضا عند المعتنين به في هذا العصر، وقد مرَّ بين يدي مؤلفات فيه للسوسيين؛ كالمرغيتي، وابن الطيفور، وبعض الكراميين، والدفلاوي، ومنظومة للتامانارتي وغيرهم، وقلما يَخلو كتاب سوسي من جداول ترسم في باطن دفتيه، وكثيرا ما يكتبون بِها التمائم، وكان لشيخنا سيدي سعيد التناني يد طولى في هذا العلم، وكتبه تزخر بِجداوله، ولكنه ليس علما يدرس، ولا ذا شهرة في المحافل فيما أدركناه وعرفناه وقرأناه.




الشيخ جلال الدين أصياد
الشيخ جلال الدين أصياد
Admin

عدد المساهمات : 248
نقاط : 680
تاريخ التسجيل : 22/06/2011
العمر : 42
الموقع : www.toubkal-hilala.roo7.biz

https://toubkal-hilala.roo7.biz

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى